الحمد لله.
زيارة النِّساء للقبور من المسائل التي اختلفَ فيها أهلُ العِلْم قديمًا وحديثًا، والحديثان المذكوران في السؤال : هما من الأدلَّة التي استدلَّ بها العلماءُ القائلون بجواز زيارة النِّساء للقبور على مشروعيَّة ذلك .
والراجح من قولَي العلماء : أنَّ زيارة القبور لا تجوز للنِّساء ، راجع سؤال : (8198) ، (131847).
وقد أجابَ المانِعون من زيارة النِّساء للقبور عن هذين الحديثَين بالأجوبة الآتية :
الجواب عن الحديث الأول:
يُجاب عن هذا الحديث من وجهَين:
الأول:
قالوا: إنَّ أُمَّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - لم تقصد الخروجَ لزيارة القبور
؛ وإنَّما مرَّت على قبر أخيها في طريقها للحَجِّ فوقفَت عليه ، وهذا لا مانع منه .
قال الإمام ابن القيِّم - رحمه الله - : "وأما حديث عائشة فالمحفوظ فيه حديث
الترمذي ، مع ما فيه [يعني: حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ :
تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِحُبْشِيٍّ ، قَالَ: فَحُمِلَ
إِلَى مَكَّةَ ، فَدُفِنَ فِيهَا ، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ أَتَتْ قَبْرَ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ... ثُمَّ قَالَتْ : "وَاللَّهِ لَوْ
حَضَرْتُكَ مَا دُفِنْتَ إِلَّا حَيْثُ مُتَّ ، وَلَوْ شَهِدْتُكَ مَا زُرْتُكَ"
رواه الترمذي (1055)، وضَّعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي (1055) ].
وعائشة إنما قَدِمَت مكة للحج فمرَّت على قبر أخيها في طريقها فوقفَت عليه ، وهذا
لا بأس به، إنما الكلام في قصدهنَّ الخروجَ لزيارة القبور .
ولو قُدِّر أنها عدلَت إليه وقصدت زيارته فهي قد قالت : " لو شهدتُك [ يعني: شهدتُ
وفاتَك] لَمَا زُرتُك" ، وهذا يدلُّ على أنه من المستقر المعلوم عندها أنَّ النساء
لا يُشرَع لهن زيارة القبور ؛ وإلا لم يكن في قولها ذلك معنى" .
انتهى من " تهذيب سنن أبي داود " (9/44).
الثاني :
قول أُمِّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - كما في رواية الترمذي المتقدمة :
"ولَوْ شَهِدْتُكَ مَا زُرْتُكَ" ، " يدلُّ على أنَّ الزيارة ليست مستحبة للنساء
كما تُستحَبُّ للرجال ؛ إذ لو كان كذلك لاستُحِبَّ لها زيارته كما تستحب للرجال
زيارته ، سواء شهدته أو لم تشهده "، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -
كما في " مجموع الفتاوى " (24/345).
فدلَّ قولُها هذا على أنَّه استقرَّ عندها المنع من زيارة النِّساء للقبور .
وأما قولها - رضي الله عنها - : "كَانَ نَهَى ثُمَّ أَمَرَنَا بِزِيَارَتِهَا ":
فيُجاب عنه من وجهَين أيضًا:
الأول:
أنَّ هذا تأويلٌ واجتهادٌ من أُمِّ المؤمنين - رضي الله عنها - ؛ " فهي تأوَّلت ما
تأوَّل غيرُها من دخول النساء ، والحُجَّة في قول المعصوم لا في تأويل الراوي ،
وتأويله إنما يكون مقبولاً حيث لا يُعارِضه ما هو أقوى منه ، وهذا قد عارضه أحاديث
المنع " ، كما يقول ابن القيِّم في " تهذيب السنن " (9/45).
الثاني :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : "ولا حُجَّة في حديث عائشة ؛ فإنَّ
المحتج عليها احتج بالنهي العام ، فدفعت ذلك بأن النهي منسوخ ، وهو كما قالت - رضي
الله عنها - ، ولم يذكر لها المحتج النهي المختص بالنساء الذي فيه لعنهن على
الزيارة .
يبيِّن ذلك قولها : "قد أمرَ بزيارتها" ؛ فهذا يبيِّن أنه أمر بها أمرًا يقتضي
الاستحباب ، والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصَّة ، ولكن عائشة بيَّنت أنَّ أمره
الثاني نسخَ نهيه الأول ؛ فلم يصلح أن يحتج به - وهو أنَّ النساء على أصل الإباحة -
، ولو كانت عائشة تعتقد أنَّ النساء مأمورات بزيارة القبور لكانت تفعل ذلك كما
يفعله الرجال ، ولم تقل لأخيها: "لَمَا زُرتُك"" انتهى من "مجموع الفتاوى"
(24/353).
الجواب عن الحديث الثاني:
يُجاب عن هذا الحديث من عدَّة وجوه :
أولها:
حمل سؤالها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليمه إيَّاها على : ما إذا اجتازَت
بقبر في طريقها بدون قصد للزيارة ، ولفظ الحديث ليس فيه تصريح بالزيارة عند مَن
خرَّجه ؛ بل قالت: " كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ ؟ " رواه مسلم (974) ، والنسائي (2037).
الثاني :
أنَّ هذا محمول على البراءة الأصلية ، ثم نُقِل عنها إلى التحريم العام في حقِّ
الرجال والنِّساء، ثم نُسِخَ نهي الرِّجال عن الزِّيارة ، وبقي نهي النساء على
عمومه ؛ لحديث: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوَّارات القبور " رواه الترمذي
(1056) ، وابن ماجه (1576) ، وصحَّحه الألباني في " أحكام الجنائز " (ص 185).
الثالث:
حمل سؤالها - رضي الله عنها - وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم إيَّاها على: أنَّها
مُبلِّغة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومثل هذا في السُّنَّة كثير؛ فقد روَّت
- رضي الله عنها - أحاديث كثيرة بلَّغتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولمزيد من التفصيل في هذه الأوجه يمكن مراجعة رسالة (جزء في زيارة النساء للقبور)
لفضيلة الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله (ص 129 وما بعدها - ضمن الأجزاء الحديثيَّة).
والله تعالى أعلم ..
تعليق