الثلاثاء 18 جمادى الأولى 1446 - 19 نوفمبر 2024
العربية

حديث دفع النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق عن ضرب ابنته عائشة

213366

تاريخ النشر : 10-06-2014

المشاهدات : 196405

السؤال


قرأت هذين الحديثين وأريد معرفة مدى صحتهما : الحديث الأول : زار أبو بكر رضي الله عنه في أحد الأيام ابنته عائشة رضي الله عنها في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فسمعها تصرخ على النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخل إليها وكاد يضربها ، لولا أن منعه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ، وقال له : دعها تفرغ ما بداخلها . وبعد عدة أيام ذكَّرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وأخبرها كيف أنه دافع عنها من أبيها وأنه كان سيضربها ، لكنه سمح لها بتنفيس غضبها . فهل حقاً يُفضل للمرء أن يصرخ كي يفرغ ما بداخله من الغضب ، بدلاً من كتمه في قلبه ؟ الحديث الثاني : زار النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة رضي الله عنها وهي حامل في شهرها التاسع ، وكانت تطحن الشعير ، وقد أثر ذلك في يدها ، وكان علي رضي الله عنه في البيت ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أتسمح لي بأن أقوم بعملها ، فوافق علي ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الرحى منها وبدأ يطحن بنفسه ، عندها التفتت فاطمة رضي الله عنها إلى علي رضي الله عنه وقالت : أترى كم يحبني أبي ! ولذلك فإني أحبه أكثر منك ، عندها قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا فاطمة ! أنتِ أقرب إلى قلبي ، وعلي في قلبي .

الجواب

الحمد لله.


أولا :
من الضروري لكل مسلم أن يكون منهجه فيما يقرأ ويسمع البحث والتثبت ، فذلك ما أمر الله عز وجل به في قوله : ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ) الإسراء/36 ، فقد أحسنتَ صنعا حين سارعت بالسؤال عن هذه الأحاديث ، خاصة مع كثرة المنكرات والموضوعات التي يتناقلها الناس على مواقع التواصل الاجتماعي ، رغم بعدها كل البعد عن السنة النبوية الصحيحة .
ثانيا :
أما الحديث الأول فقد ثبت في كتب السنة النبوية عن الصحابي الجليل النعمان بن بشير رضي الله عنه ، ولفظه : " اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَ صَوْتَ عَائِشَةَ عَالِيًا ، فَلَمَّا دَخَلَ تَنَاوَلَهَا لِيَلْطِمَهَا، وَقَالَ : أَلَا أَرَاكِ تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْجِزُهُ ، وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُغْضَبًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ : كَيْفَ رَأَيْتِنِي أَنْقَذْتُكِ مِنَ الرَّجُلِ ؟ قَالَ : فَمَكَثَ أَبُو بَكْرٍ أَيَّامًا ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَوَجَدَهُمَا قَدِ اصْطَلَحَا ، فَقَالَ لَهُمَا : أَدْخِلَانِي فِي سِلْمِكُمَا ، كَمَا أَدْخَلْتُمَانِي فِي حَرْبِكُمَا . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ فَعَلْنَا ، قَدْ فَعَلْنَا ) .
رواه أبو داود في " السنن " (4999) من طريق حجاج بن محمد ، عن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه .
ورواه أيضا ابن أبي الدنيا في " النفقة على العيال " (2/759)، لكن من طريق إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، عن جده أبي إسحاق ، وليس عن أبيه يونس . وأيضا يرويه عن العيزار قال : دخل أبو بكر . هكذا من غير ذكر الصحابي النعمان بن بشير .
قال ابن ابي الدنيا : حدثنا محمد بن الحسين ، حدثنا عبد الله بن موسى ، وأسود بن عامر، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن العيزار بن حريث ، قال : دخل أبو بكر على عائشة وهي رافعة صوتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم... إلى آخر الحديث.

والحديث في تخريجه وبيان ألفاظه واختلاف رواياته كلام طويل ، ليس هذا محل ذكره ، وإنما يهمنا هنا الحكم على أصل القصة ، فقد صححها كثير من المحدثين ، سكت عنها أبو داود في " السنن " ، وابن حجر في " فتح الباري " (4/400) ، وصححها الألباني في " السلسلة الصحيحة " (رقم/2901)، والوادعي في " الصحيح المسند " (1172) .

ودلالة الحديث الأهم : هي في طريقة تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع غضب عائشة رضي الله عنها ، وكيف كان هديه عليه الصلاة والسلام بالعمل على تهدئة الغضبان ، وترك مجاراته أو الرد عليه في غضبه ، كي لا يزداد ، فيقع الإثم والمعصية ، ويؤدي إلى ما لا تحمد عقباه .
لذلك استنبط العلماء من مثل هذا الأدب الرفيع : أن من حقوق الأخوة والمعاشرة تحمل الغضب ، وامتصاص فورته ، والتجاوز عن الزلة التي تقع خلاله ، فهي نار في القلب سرعان ما تنطفئ لدى المؤمن التقي .
يقول الإمام الغزالي رحمه الله :
" زلة [الصاحب] في حق [ صاحبه ] بما يوجب إيحاشه : لا خلاف أن الأولى العفو والاحتمال ، بل كل ما يحتمل تنزيله على وجه حسن ، ويتصور تمهيد عذر فيه ، قريب أو بعيد ، فهو واجب بحق الإخوة . فقد قيل : ينبغي أن تستنبط لزلة أخيك سبعين عذرا ، فإن لم يقبله قلبك فرد اللوم على نفسك ، فتقول لقلبك : ما أقساك ! يعتذر إليك أخوك سبعين عذرا فلا تقبله ، فأنت المعيب لا أخوك ... " انتهى من " إحياء علوم الدين " (2/185) .

فالخلاصة : أن القضية في هذا الحديث ليست في غضب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، فهو مذموم ولا شك ، ولهذا غضب منها والدها أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فلا ينبغي الاستشهاد بالحديث على تحسين التصرف المذموم ، بل نستشهد بالحديث على أحسن الهدي في التعامل مع من يصدر عنه الخلق المذموم ، وذلك في فعله عليه الصلاة والسلام ، فهو المعصوم الذي نقتدي به ، ونستشهد بأقواله وأفعاله وتقريراته ، ومن سواه من البشر يجوز عليهم الخطأ والغفلة والمخالفة .

ثالثا :
وأما الحديث الثاني : فأصل قصته في " الصحيحين " من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " أَنَّ فَاطِمَةَ شَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ أَثَرِ الرَّحَا ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ ، فَانْطَلَقَتْ فَلَمْ تَجِدْهُ ، فَوَجَدَتْ عَائِشَةَ فَأَخْبَرَتْهَا ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ بِمَجِيءِ فَاطِمَةَ ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا ، فَذَهَبْتُ لِأَقُومَ ، فَقَالَ : ( عَلَى مَكَانِكُمَا ) ، فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي ، وَقَالَ : ( أَلاَ أُعَلِّمُكُمَا خَيْرًا مِمَّا سَأَلْتُمَانِي ، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا تُكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ ، وَتُسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ ، وَتَحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ ) " رواه البخاري (3705) ، ومسلم (2727) .

وأما اللفظ الوارد في السؤال ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة : ( أنتِ أقرب إلى قلبي ، وعلي في قلبي ) فلا أصل له في كتب السنة والحديث ، وإنما هو كذب وافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم .
ونحن لا نشك أن عليا وفاطمة رضي الله عنهما من أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقربهم إليه ، ولكن ذلك لا يجيز لنا أن نكذب كلاما فننسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، كما لا يجيز لنا أن نتناقل مثل هذه الأحاديث الموضوعة ونحكيها على سبيل الإقرار والاستشهاد ، بل على سبيل التكذيب والإنكار فحسب .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب