الحمد لله.
أولا :
اتفق أهل العلم على أن صحيح الإمام البخاري رحمه الله أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل . وورد عن الإمام البخاري أنه قال : " ما أدخلت في الصحيح حديثًا إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته " .
انتهى من " مقدمة فتح البارى " (ص 345).
ثانيا :
روى البخاري (4299) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : ( أَقَمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ تِسْعَ عَشْرَةَ نَقْصُرُ الصَّلاَةَ ) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " وَنَحْنُ نَقْصُرُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ تِسْعَ عَشْرَةَ ، فَإِذَا زِدْنَا أَتْمَمْنَا " .
فهذا حديث صحيح ، وهو من جملة الأحاديث الكثيرة الصحيحة الواردة في هذه المسألة التي اختلف العلماء والأئمة فيها قديمًا ، ولا يزال الخلاف فيها قائمًا إلى يومنا هذا .
وقد بلغت الأقوال في هذه المسألة أكثر من عشرين قولاً .
انظر : "عمدة القاري" (7/ 115) .
والمسائل التي اختلف العلماء فيها لا يصح أن يعتمد فيها على حديث واحد ، وتترك باقي الأحاديث الصحيحة ، بل تجمع الأحاديث الصحيحة كلها ويؤخذ الحكم منها جميعا ، حتى لا نكون قد تركنا حديثا صحيحا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم نعمل به .
وقد صح عن ابن عباس غير ما جاء عنه في البخاري ؛ فروى ابن أبي شيبة (2/ 207) بسند صحيح عَنْ أَبِي جَمْرَةَ نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ ، قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : إِنَّا نُطِيلُ الْقِيَامَ بِالْغَزْوِ بِخُرَاسَانَ فَكَيْفَ تَرَى ؟ فَقَالَ : " صَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ أَقَمْتَ عَشْرَ سِنِينَ "
وروى ابن أبي شيبة أيضا (2/ 207) بسند صحيح عن أبي الْمِنْهَالِ ، قَالَ : قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ : إِنِّي أُقِيمُ بِالْمَدِينَةِ حَوْلًا لَا أَشُدُّ عَلَى سَيْرٍ ، قَالَ : " صَلِّ رَكْعَتَيْنِ " .
وهذا يوافق ما رواه الإمام مالك (498) عن ابن عُمَرَ أنه كَانَ يَقُولُ : " أُصَلِّي صَلاَةَ الْمُسَافِرِ ، مَا لَمْ أُجْمِعْ مُكْثاً . وَإِنْ حَبَسَنِي ذلِكَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً " وإسناده صحيح .
وروى ابن أبي شيبة (2/ 208) بسند جيد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، ( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ سَبْعَ عَشْرَةَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ ) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " مَنْ أَقَامَ سَبْعَ عَشْرَةَ قَصَرَ الصَّلَاةَ، وَمَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَتَمَّ " .
وهذه الأقوال يمكن التوفيق بينها ، ويمكن أن تحمل على تعدد الاجتهاد من ابن عباس رضي الله عنهما .
وأيضا : فقد جاء عن غيره من الصحابة خلاف ما ذهب إليه ، فروى ابن أبي شيبة (2/ 207) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِسْوَرٍ، قَالَ: أَقَمْنَا مَعَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ شَهْرَيْنِ بِعُمَانَ ، يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَنَحْنُ نُتِمُّ، فَقُلْنَا لَهُ: فَقَالَ: " نَحْنُ أَعْلَمُ " .
وروى (2/ 208) عَنِ الْحَسَنِ، " أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، شَتَّى بِكَابُلَ شَتْوَةً أَوْ شَتْوَتَيْنِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ " .
ثالثاً :
المسافر إذا أقام لقضاء حاجة متى انتهت رجع إلى بلده فإنه يقصر الصلاة ولو طالت مدة إقامته بإجماع العلماء . وقد حمل بعض العلماء حديث ابن عباس رضي الله عنهما على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينو الإقامة ، وإنما كان عازما على السفر متى انتهت حاجته .
قال ابن قدامة رحمه الله :
" مَنْ لَمْ يُجْمِعْ الْإِقَامَةَ مُدَّةً تَزِيدُ عَلَى إحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً ، فَلَهُ الْقَصْر ُ، وَلَوْ أَقَامَ سِنِينَ ، مِثْلُ أَنْ يُقِيمَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ يَرْجُو نَجَاحَهَا ، أَوْ لِجِهَادِ عَدُوٍّ ، أَوْ حَبَسَهُ سُلْطَانٌ أَوْ مَرَضٌ ، وَسَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ انْقِضَاءُ الْحَاجَةِ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ ، أَوْ كَثِيرَةٍ ، بَعْدَ أَنْ يَحْتَمِلَ انْقِضَاؤُهَا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي لَا تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَقْصُرَ مَا لَمْ يُجْمِعْ إقَامَةً ، وَإِنْ أَتَى عَلَيْهِ سِنُونَ . وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: ( أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ تِسْعَ عَشْرَةَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . وَقَالَ جَابِرٌ : ( أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ ) . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " . وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، ( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَا يُصَلِّي إلَّا رَكْعَتَيْنِ ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد " .
انتهى من " المغني" (2/ 215) .
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
" من أقام في سفره أكثر من أربعة أيام ولم يجمع النية على الإقامة ، بل عزم على أنه متى قضيت حاجته رجع ؛ كمن يقيم بمكان الجهاد للعدو ، أو حبسه سلطان أو مرض مثلا ، وفي نيته أنه إذا انتهى من جهاده بنصر أو صلح أو تخلص مما حبسه من مرض أو قوة عدو أو سلطان أو وجود آبق أو بيع بضاعة أو نحو ذلك فإنه يعتبر مسافرا ، وله قصر الصلاة الرباعية ، ولو طالت المدة ؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام بمكة عام الفتح تسعة عشر يوما يقصر الصلاة ، وأقام بتبوك عشرين يوما لجهاد النصارى ، وهو يصلي بأصحابه صلاة قصر ، لكونه لم يجمع نية الإقامة بل كان على نية السفر إذا قضيت حاجته " .
انتهى من " فتاوى اللجنة الدائمة " (8/ 110-111) .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" ذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن المسافر إذا أقام تسعة عشر يوما أو أقل فإنه يقصر . وإذا نوى الإقامة أكثر من ذلك وجب عليه الإتمام محتجا بإقامة النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة تسعة عشر يوما يقصر الصلاة فيها ... والجواب عما احتج به ابن عباس رضي الله عنهما : أنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه عزم على الإقامة هذه المدة ، وإنما أقام لتأسيس قواعد الإسلام في مكة ، وإزالة آثار الشرك من غير أن ينوي مدة معلومة، والمسافر إذا لم ينو مدة معلومة له القصر ولو طالت المدة " انتهى من " مجموع فتاوى ابن باز" (12/ 275-276) .
وانظر جواب السؤال رقم : (110486) .
وبهذا يتبين أن قول ابن عباس : " نَقْصُرُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ تِسْعَ عَشْرَةَ ، فَإِذَا زِدْنَا أَتْمَمْنَا " هو اجتهاد منه رضي الله عنه وقد خالفه غيره من الصحابة . ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم إذا اختلفوا لم يكن قول بعضهم حجة على البعض الآخر .
قال ابن الجوزي رحمه الله :
" أَما ذكر التِّسْعَة عشر : فرأيٌ لِابْنِ عَبَّاس " انتهى من " كشف المشكل" (2/ 426) .
وقول السائل : " لماذا يردّ حديث ابن عباس وتقبل الأقوال الأخرى ؟ "
فالجواب : أن حديث ابن عباس لم يرده أحد ، ولكن اختلف العلماء في فهمه واستنباط الحكم منه .
وكذلك رواية الإمام البخاري للحديث لا يقطع الخلاف في المسألة ؛ لأن الخلاف ليس في صحة الحديث بل في فهمه كما سبق .
والله تعالى أعلم .
تعليق