الحمد لله.
أولا:
الدعوة إلى الإسلام أشرف الوظائف ، قال تعالى : ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) سورة فصلت / 33 .
وهي وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ويجب على الداعي أن يكون على بصيرة في دعوته إلى الله تعالى ، وأن يجاهد نفسه في سبيلها .
وما ذكره السائل من وقوعه في علاقة مع فتاة لا تحل له : أمر منكر ، يجب عليه أن يجاهد نفسه على التخلص منه ، وعدم الاستمرار فيه .
وليس يفهم من هذا أن تُترَك هذه الفتاة دون دعوة إلى الإسلام ، بل ينبغي له أن يستمر في ذلك بواسطة غيره من النساء الداعيات ، أو بواسطة دعاة رجال تؤمن عليهم الفتنة ، و( لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم ) .
واللائق بالمسلم الداعي إلى الله أولا : أن يقف وقفة حازمة ، وينتهي عن الخوض في أمر يعلم حرمته ، ويخشى من عواقبه الوخيمة على دينه ودنياه ، ثم يبدأ ثانيا بالتماس السبل المباحة للوصول إلى مراده .
فإن تيسر السبيل الحلال بعد ذلك : فالحمد لله ، وإن لم يتيسر له مراده ، أو حال دون ذلك عقبات ، فيكون قد قطع علائقه من هذه الفتاة ، وأَمِن من خطوات الشيطان التي قد تقوده إلى الموبقات ، بعد أن كان من الداعين إلى دين الله العظيم ، وكم من الناس من استدرجهم الشيطان بمثل تلك الخيوط ، حتى أوقعهم في مهاوي المنكر والفحشاء .
وتأمل قوله تعالى :( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) النازعات / 40-41 ؛ ألسنا نخاف من القيام بين يديه تعالى للجزاء ؟
قال ابن تيمية : " وَيَحْتَاجُ الْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ إلَى أَنْ يَخَافَ اللَّهَ وَيَنْهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى ، وَنَفْسُ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ : لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ ، بَلْ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ ، فَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ تَهْوَى ، وَهُوَ يَنْهَاهَا ، كَانَ نَهْيُهُ عِبَادَةً لِلَّهِ وَعَمَلًا صَالِحًا " انتهى من "مجموع الفتاوى " (10/635) .
ليس الشجاع الذي يحمي مطيته * يوم النزال ونار الحرب تشتعل
لكن من غض طرفا أو ثنى قدما * عن الحرام فذاك الفارس البطل
فالقوي من يتغلب على دواعي الشهوة ويستعلي على من يزينها له من الشياطين .
قال طاووس : " في قوله تعالى : ( وخلق الإنسان ضعيفا ) : ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء " انتهى من " المحرر الوجيز " (2/40) .
وقال ابن القيم " لقد ركب الله سبحانه الطباع على شهوة الصور المستحسنة ، وامتحن العباد بمجاهدة أنفسهم على الصبر وإيثار ما عنده ، وشرع لهم من الأوراد والعبادات ، في ليلهم ونهارهم ما ، يستعينون به على محاربة داعي النفس والشيطان ، من الصلوات الخمس وتوابعها ، ومن الصيام والحج والجهاد الظاهر والباطن " .
انتهى من " كشف الغطاء " لابن القيم (ص/93) .
ثانيا:
إذا كانت هذه الفتاة قد أسلمت حقا : جاز للمسلم الزواج منها ، ويزوجها قريبها المسلم إن وجد ، وإلا فيزوجها القاضي المسلم ، إذ لا ولاية لكافر على مسلمة ، وينظر جواب السؤال رقم : (143511) .
وأما إذا كانت هذه الفتاة لم تسلم بعدُ ، فإن كانت كتابية عفيفة ، " نصرانية أو يهودية " ، فيجوز للمسلم أن يتزوجها ، ويكون وليها أباها ، بل لا يصح عقد النكاح إلا إذا عقده وليها ، فإن رفض أبوها تزويجك ؛ بغضا لدين الإسلام ، أو خوفا من إسلامها أو نحو ذلك ، من الأسباب التي لا ترجع لمصلحة ابنته : جاز أن يزوجها الأقرب فالأقرب من عصباتها ، فإن امتنعوا ، انتقلت الولاية إلى الحاكم المسلم . وينظر تفصيل ذلك في جواب السؤال رقم : (111844) .
وبناء على ذلك فإن كانت هذه الفتاة قد أسلمت ، جاز لك الزواج منها دون علم أهلها ، وإن كانت كتابية لم تسلم بعد ، فلابد من إخبار أهلها ؛ لأن ولايتهم عليها لا زالت قائمة .
فإن لم تكن الفتاة مسلمة ولا كتابية : فلا يجوز لك الزواج منها مطلقا ؛ لقوله تعالى : ( وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ) البقرة / 221 ، وينظر جواب السؤال رقم : (26885) .
ثالثا:
الزواج بأكثر من زوجة واحدة أمر مشروع ، بشرط : القدرة المالية ، والقدرة البدنية ، والقدرة على العدل بين الزواجات ، ولا يتشرط له بغض زوجته الأولى ، أو شيء مما ذكره السائل في سؤاله؛ ولم يقل أحد من أهل العلم : إن الزواج إنما أبيح عند وجود المشاكل ، ولعل ما سمعته أو قرأته من تحذيرٍ من التعدد إنما كان في قضايا عينية يكون فيها حال المستفتي لا يسمح بالتعدد ، سواء لخوف عدم العدل ، أو لضعفٍ في قدرته البدنية ، أو المالية ، أو غير ذلك من الأسباب التي لا ترجع إلى أصل حكم التعدد ، بل لما يحف تلك القضية العينية من ملابسات ، حتى لقد ذهب بعض العلماء إلى أنه ، من حيث الأصل ، أفضل من الاقتصار على زوجة واحدة ، وينظر جواب السؤال رقم : (49044) .
فإن كنت تقدّر حصول مشاكل بسبب زواجك الثاني ، فأنت طبيب نفسك ، وعليك أن توازن بين المصالح المترتبة على زواجك الثاني ، والمفاسد أيضا المترتبة على ذلك ، على أن يكون ميزانك صحيحا عند التقدير ، فإن كان الميزان مختلا بسبب ما داخل قلبك من حب الفتاة الأخرى ، أو طول غربة عن الزوجة الأولى ، فلا تقدم حتى تمهد لقدمك موطئها ، وإلا كنت كمن جنى على نفسه ، لا غيرك الذي جنى ، والعاقل : لا يبني قصرا ، ويهدم مصرا ، بل يرى أين يضع قدمه أولا ، ثم يخطو .
والناس في هذا الشأن يختلفون اختلافا بيّنا ، بحسب قبائلهم ومناطقهم ، فمن المناطق ما يشيع فيها التعدد ويكون الخطب فيه هينا ، ومنها ما يكون فيها التعدد سببا لتفرق الأسرة والأولاد ، وحدوث المشاكل العظيمة .
ثم هذا كله أمر في جانب ، وكون هذه الفتاة ، بالظروف التي ذكرتها : أمر آخر ، يدعوك إلى أن تتريث في الأمر ، وتفكر جيدا في عواقب زواجك بها ، بالصورة الممكنة لك ، وما يمكن أن يترتب على ذلك .
ولو استشرتنا ، لقلنا لك ، بعد ذلك كله : السلامة لا يعدلها شيء ؛ والنساء سواها كثير ، متى احتجت إلى زوجة أخرى .
لم نحرم عليك شيئا ، وإن رأيته كذلك ، لأنه مخالف لهواك ؛ فقط : أشرنا عليك بما يبدو أنه الأسلم لك ، والأنسب لظروفك .
فإن شق عليك وعليها ذلك ، أو خفتما العنت ، فلا حرج عليك ، ولا إثم في الزواج بها ، ثم أنت أبصر بأمرك ، وأدرى بشأنك ، وحجيج نفسك ، وقد قال الله تعالى : ( بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ) القيامة/14-15 .
والله أعلم .
تعليق