الحمد لله.
أولا :
المحبة بين الزوج والزوجة : هي أمر فطري طبيعي ، ومثل هذا لا يقال فيه إنه واجب في الشرع ، أو أن الشرع قد أمر به ؛ بل مثل هذا يُكتفى فيه بالوازع الطبيعي ، عن أمر شرعي مجدد .
إن الذي يتصور الحياة الزوجية رواية رومانسية ، وأحلاما وردية ، وفقط ، يبحث عن شيء غير قابل للوجود في دنيا الناس هذه ، التي خلقت على طبعها تعبا ، وعناء ومشقة . قال الله تعالى : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ ) البلد/4 .
طُبِعَت عَلى كدرٍ وَأَنتَ تُريدُها صَفواً مِنَ الأَقذاءِ وَالأَكدارِ
وَمُكَلِّف الأَيامِ ضِدَّ طِباعِها مُتَطَّلِب في الماءِ جَذوة نارِ
فإذا فهمنا ذلك ، ونظرنا إلى الحياة بالعين التي تلائمها ، لم يكن لطلب الكمال أو الخلو من العيب في هذه الدنيا سبيل ، وبحسبك أن لا يكون ما تراه من العيب مانعا من السكن واستمرار المسير .
ولهذا قال عمر رضي الله عنه لرجل همّ بطلاق امرأته: لمَ تطلقها ؟
قال: لا أحبّها .
قال: أوكل البيوت بنيت على الحب ، وأين الرعاية والتذّمم ؟!! "عيون الأخبار" (3/18) .
والمعنى : اصبر على أذية صديقك وأهلك ؛ فإن حال الناس مع أهلهم وأصدقائهم مثل حالك ونحوه ، وربما اجتمع القوم على غير رضا بعضهم ببعض ، ومحبة بعضهم لبعض ، ولكن حاجة كل واحد منهم إلى الآخر تجمعهم !!
فبالرعاية يتراحم أهل البيت فيما بينهم ، ويعرف كل واحد منهم واجبه تجاه الآخر ،
وبالتذمم ، وهو التحرج ، يحاذر كل واحد أن يفترق الطريق عنده ، أو يتشتت الشمل على يديه .
وتأمل قول الله تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) الروم/21 ، وكيف أن الله تعالى قد أخبر عن "المحبة" بين الزوجين ، باعتبارها أمرا من "خلق الله " وآيات قدرته ، وليست باعتبارها واجبا شرعيا ، يأمر الله به عباده ، فإن نفس محبة القلب : ليست مما يملكه العبد ، وإنما الذي يملكه : الإحسان ، والعشرة بالمعروف .
قال ابن كثير رحمه الله :
" وَقَوْلُهُ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا أَيْ: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ جِنْسِكُمْ إِنَاثًا يَكُنَّ لَكُمْ أَزْوَاجًا، لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الْأَعْرَافِ: 189] ؛ يَعْنِي بِذَلِكَ: حَوَّاءَ، خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ آدَمَ مِنْ ضِلَعه الْأَقْصَرِ الْأَيْسَرِ. وَلَوْ أَنَّهُ جَعَلَ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ ذُكُورًا وَجَعَلَ إِنَاثَهُمْ مَنْ جِنْسٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ إِمَّا مِنْ جَانٍّ أَوْ حَيَوَانٍ، لَمَا حَصَلَ هَذَا الِائْتِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَزْوَاجِ، بَلْ كَانَتْ تَحْصُلُ نَفْرَة لَوْ كَانَتِ الْأَزْوَاجُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. ثُمَّ مِنْ تَمَامِ رَحْمَتِهِ بِبَنِي آدَمَ أَنْ جَعَلَ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَجَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ مَوَدَّةً: وَهِيَ الْمَحَبَّةُ، وَرَحْمَةً: وَهِيَ الرَّأْفَةُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يُمْسِكُ الْمَرْأَةَ إِمَّا لِمَحَبَّتِهِ لَهَا، أَوْ لِرَحْمَةٍ بِهَا، بِأَنْ يَكُونَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ، أَوْ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ فِي الْإِنْفَاقِ، أَوْ لِلْأُلْفَةِ بَيْنَهُمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ " انتهى من "تفسير ابن كثير" (6/309) .
وقال تعالى أيضا : ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) النساء:/ 19 .
قال الشيخ السعدي رحمه الله :
" على الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف، من الصحبة الجميلة، وكف الأذى وبذل الإحسان، وحسن المعاملة، ويدخل في ذلك النفقة والكسوة ونحوهما.
(فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) أي: ينبغي لكم -أيها الأزواج- أن تمسكوا زوجاتكم مع الكراهة لهن، فإن في ذلك خيرًا كثيرًا. من ذلك امتثال أمر الله، وقبولُ وصيته التي فيها سعادة الدنيا والآخرة.
ومنها أن إجباره نفسَه -مع عدم محبته لها- فيه مجاهدة النفس، والتخلق بالأخلاق الجميلة. وربما أن الكراهة تزول وتخلفها المحبة، كما هو الواقع في ذلك. وربما رزق منها ولدا صالحا نفع والديه في الدنيا والآخرة. وهذا كله مع الإمكان في الإمساك وعدم المحذور.
فإن كان لا بد من الفراق، وليس للإمساك محل، فليس الإمساك بلازم " انتهى من
"تفسير السعدي" (ص 172).
وروى مسلم (1469) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً ، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ ) .
قال النووي رحمه الله :
" أَيْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُبْغِضهَا ، لِأَنَّهُ إِنْ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا يُكْرَه وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا مَرْضِيًّا بِأَنْ تَكُون شَرِسَة الْخُلُق لَكِنَّهَا دَيِّنَة أَوْ جَمِيلَة أَوْ عَفِيفَة أَوْ رَفِيقَة بِهِ أَوْ نَحْو ذَلِكَ " انتهى .
ثانيا :
إذا افترضنا أن " الحب " بين الزوجين ، هو من واجبات كل منهما تجاه الآخر ، وأنه لا بد للزوج أن "يحب" زوجته ، و"يتعلق" بها ؛ فأين المشكلة هنا في أن يتزوج الرجل بامرأتين ، أو بثلاث ، أو بأربع ؛ ثم هو يحبهن كلهن ؟!
وأي مانع من ذلك ، سوى الأفكار "الرومانسية" المحضة ، عن المحبة بين الزوجين ، أو بين شخصين ، وأنه لا يمكن "التشريك" في المحبة ، فلكأنهم يصورون المحبوب ربّاً ، لا يقبل شريكا في عبادته ؟!!
أليس المرء يحب أباه ، ويحب أمه ، ويحب ... ، وهي محبة من جنس واحد ، ولم تمتنع الشركة فيها ؛ فبأي وجه تمتنع المحبة بين الرجل ، وبين أكثر من زوجة له ؟!
أليس الرجل يشتهي من الطعام كذا ، وكذا ، ويحب كذا ، وكذا ، وهي أطعمة ، وطعوم مختلفة ، أو روائح مختلفة ، ثم هو يشتهي ذلك كله ، ويحب ذلك كله ؛ فما الذي يمنع في قضية العقل ، أو الشرع من محبة أكثر من زوجة ، في وقت واحد ؟!
وما الذي جعل لمحبة الرجل للمرأة شأنا خاصا ، بحيث لا تقبل الشركة ؟!
وهل هذا إلا محبة العبودية لرب العالمين ؟!
فإن قيل : إن المشهود من أكثر الناس كذلك ؛ أن الرجل إنما يتعلق بامرأة واحدة ، وأن المرأة إنما تحب رجلا واحدا ؟
فالجواب : أنه كذلك : المشهود من أكثر الناس أنهم لا يعددون في الزواج ، لكن ذلك لم يمنع أن يعدد ناس منهم في الزواج ، ويعددون في المحبة أيضا ، وقد حدث هذا ، ويحدث مرارا ، وتكرارا .
راجع جواب السؤال رقم : (14022) لمعرفة الحكمة من تعدد الزوجات .
وراجع للفائدة جواب السؤال رقم : (95114) ، (101130)
والله تعالى أعلم .
تعليق