الحمد لله.
الشريعة الإسلامية شريعة الحكمة والتعليل ، وشريعة المصلحة والعقل والمنفعة ، ومع ذلك فلا ننفي وجود الجوانب التعبدية في الأحكام الشرعية .
فلو سألك أحدهم : لماذا شُرع الظهر أربعا ، والمغرب ثلاثا ؟ ولماذا كان الطواف بالكعبة سبعة أشواط ؟ وما الحكمة من تخصيص جبل عرفة بالوقوف ؟ ونحو ذلك من التساؤلات التي ترتبط ببعض العبادات الإسلامية .
فالجواب على ذلك كله سيكون بإسناد العلم إلى الله سبحانه وحده ، وبتقرير أن من مقتضيات الإسلام الاستسلام لأمر الله عز وجل ، سواء عُلمت الحكمة أم جُهلت ، وسواء تبينت المصلحة أم خفيت ، كما قال الله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام - وقد أُمر بذبح ولده ولم يتبين له وجه الحكمة من ذلك -: ( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ . وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ . وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ . سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ . كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) الصافات/103-111، فكان من أعظم البلاء أن يؤمر بذبح ولده تعبدا دون أن يعلم وجه الحكمة من ذلك ، ومع هذا أطاع وامتثل ، ليعلمنا عليه السلام درسا في الاستسلام لأمر الله جل وعلا ، واليقين بالحكمة منه سبحانه .
فيكفي المؤمن أن يعلم أن الله تعالى أمره بالاغتسال من الجنابة ، ورتب على الجنابة عدة أحكام حتى يمتثل كل ذلك ، ويقول سمعنا وأطعنا .
ومع ذلك فالأمر بالاغتسال من الجنابة معقول المعنى في بعض جوانبه لدى كثير من العلماء ، فقالوا : إن الغسل يبعث الجسم على النشاط والقوة التي ذهبت بسبب خروج المني ، ويعين الجسم على تعويض هذا القدر المفقود من الطاقة والنشاط ، وقد نص على ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله حيث يقول :
" الاغتسال من خروج المني من أنفع شيء للبدن والقلب والروح ، بل جميع الأرواح القائمة بالبدن ، فإنها تقوى بالاغتسال ، والغسل يخلف عليه ما تحلل منه بخروج المني ، وهذا أمر يعرف بالحس .
وأيضا : فإن الجنابة توجب ثقلا وكسلا ، والغسل يحدث له نشاطا وخفة ، ولهذا قال أبو ذر لما اغتسل من الجنابة : كأنما ألقيت عني حملا .
وبالجملة : فهذا أمر يدركه كل ذي حس سليم ، وفطرة صحيحة ، ويعلم أن الاغتسال من الجنابة يجري مجرى المصالح التي تلحق بالضروريات للبدن والقلب ، مع ما تحدثه الجنابة من بعد القلب والروح عن الأرواح الطيبة ، فإذا اغتسل زال ذلك البعد ، وقد صرح أفاضل الأطباء بأن الاغتسال بعد الجماع يعيد إلى البدن قوته ، ويخلف عليه ما تحلل منه ، وإنه من أنفع شيء للبدن والروح ، وتركه مضر ، ويكفي شهادة العقل والفطرة بحسنه ، وبالله التوفيق " .
انتهى من " إعلام الموقعين " (2/77-78) .
وقد بحث بعض الباحثين المعاصرين تفسير التأثيرات التي تحدثها الجنابة على جسم الإنسان ، والتي تقتضي منه الاغتسال الكامل ، ومن هؤلاء الدكتور عبد البديع حمزة زللي ، أستاذ علم التلوث البيئي والتسمم البيئي ، ووكيل معهد البحوث والاستشارات في جامعة طيبة في المدينة النبوية ، حيث كتب بحثا بعنوان : " الإعجاز العلمي في مسمى الجنابة وحكمها الشرعي "، فكان مما قاله في البحث (ص/17-18):
" من هنا تبرز لنا مهمة ووظيفة الوحدات الإخراجية المنتشرة على جميع بشرة الإنسان في حالة المواقعة الجنسية ، وخاصة تلك الكبيرة منها التي يتركز وجودها في مناطق محددة من الجسم كفرج المرأة والرجل ومنطقة الإبطين وحول الحلمتين ، والتي لا تثار لتنتج إفرازاتها عن طريق المثيرات والمنبهات الحرارية ، وإنما ترتبط إفرازاتها بالأمور الجنسية ، وتعمل جميع هذه الوحدات الإخراجية على إخراج السموم ، وما تولد في الجسم من مركبات سامة ، لتستقر على سطح البشرة ، ولا يعني هذا أن تكون الإفرازات والسوائل التي تخرج من وحدات الغدد العرقية مرئية للعين ، فقد أشرنا سابقًا أن الناس يعرقون في الجو البارد مثل ما يعرقون في الجو الحار ، وأن العرق في الحالة الأولى يتبخر مباشرة فور خروجه ، ولهذا تسمى هذه العملية بالتعرق غير الملموس . ويتبخر ماء هذا الإفرازات وتبقى السموم والمواد الكيميائية على سطح البشرة ، كما إن الإفرازات التي تفرزها الغدد العرقية البعيدة ( الكبيرة ) ، وهي غير مرئية أصلا ، مثل العرق العادي لأن هذه الإفرازات عند خروجها تشكل طبقة غير مرئية تشبه المادة البلاستيكية . وعليه ندرك أن السموم التي تخرج بواسطة الغدد العرقية الصغيرة أو الكبيرة لا تذهب عن الجسم ، وإنما تُجنَّب عليه فقط ، حيث تنتقل من موضعها الداخلي إلى موضعها الخارجي ، أي أنها لا تزال موجودة على جسم الإنسان . ومن هنا تتجلى لنا بوضوح تام المعجزة النبوية والانسجام البليغ في إطلاق اسم الجنابة على المواد التي تخرج من الجسم ، وتستقر تحت الشعر أو عليها . وإذا كان خالق الكون جلت قدرته قد خلصنا نحن البشر من هذا الأذى بخروجه من داخل الجسم إلى خارجه ، فينبغي على كل مدرك عاقل أن لا يتركه على الجسم ليتراكم ، ويسبب مشكلات صحية محتملة سنذكرها فيما بعد ، أو يتركها لتعود ثانية إلى داخل الجسم عن طريق إعادة الامتصاص خاصة عندما تتراكم على الجسم ، وتزداد كميتها ، وتنتشر على جميع أجزاء البشرة ، إذ تدل نتائج الدراسات أن للجلد قدرة على امتصاص كثير من العناصر والمركبات الكيميائية التي تتصل به بشكل مباشر ، وله قدرة أيضًا على إعادة امتصاص بعض العناصر والمعادن التي تخرج منه وتبقى عليه ، فالمعادن السامة التي تخرج عن طريق هذه الوحدات كالرصاص مثلا عندما تبقى كثيرًا على الجلد تترك فرصة لإعادة امتصاصها ، وتدل الدراسات أيضًا أن زيادة كمية المعادن الثقيلة الضارة وزيادة زمن مدة بقائها على الجلد وحالة الجلد غير الصحية تعمل على زيادة تأثيرها السام على الجسم ، وتسهل هذا العوامل وتيسر عملية امتصاصها بواسطة الجلد ، ولذلك ينبغي إزالتها عن الجسم بالغسل " انتهى .
فإذا تبين ما سبق علمنا أن الحكمة في منع الجنب من الصلاة أو مس المصحف أو قراءة القرآن قد تكمن في هذا التغير في جسم الإنسان ، والذي أوجبت الشريعة إزالته والتنظف منه ، فلكي يكون هذا الإيجاب ملزما وضروريا فقد منعت المسلم من أداء عبادة الصلاة والتلاوة حتى يؤدي هذا الواجب الضروري .
وخروج هذه الإفرازات التي ذكرها الدكتور عبد البديع محصور في حصول العملية الجنسية ، ولا يحصل شيء منها عند خروج البول أو المذي مجردا .
يقول الدكتور عبد البديع – (ص/25) في بحثه السابق -:
" عرفنا أن الإثارة والمواقعة الجنسية هي العامل المثير لتشغيل الغدتين البصيلية الإحليلية لإفراز المذي ، وأن خروج المذي من الجسم لا يعمل كما تعمل الغدد العرقية الإخراجية على إخراج المواد الضارة المؤذية من جميع أجزاء بشرة الجسم ، وإنما يكون موقع خروجه هو فتحه خروج البول من عضو الرجل ، فيكون عندئذ موقع النجاسة والمواد المؤذية الضارة فقط هو الفرج وموضع اللباس الذي يصيبه ، ولذلك لم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاغتسال ، وإنما أمر من خرج منه المذي بغسل فرجه ، وغسل مكان الثوب الذي يرى فيه الإصابة بالمذي ، وهذا الأمر يكفي تمامًا لإزالة النجس والقذارات من المواضع التي تصيبها ، في حين أن الأذى الذي يخرج ويجنب من الجسم بواسطة الغدد العرقية الإخراجية التي تنتشر في جميع أرجاء بشره الإنسان وخصوصًا مناطق العانة وتحت الإبطين وحول السرة والصدر لا يكفي إزالتها غسل الفرج فقط ، وإنما يتطلب ذلك غسل البدن كله " انتهى.
ويبقى هذا التوجيه في دائرة البحث والنظر ، حتى تزداد الأبحاث وتتكامل في تحديد الأثر الذي تحدثه الجنابة على الجسم ، الأمر الذي يقتضي الغسل الكامل .
ويكفي المسلم كما سبق أن يسلم لحكم الله تعالى مع اليقين بأن لله تعالى الحكمة البالغة .
وللمزيد ينظر جواب السؤال رقم : (110056) .
والله أعلم .
تعليق