الحمد لله.
روى الترمذي (3010) وحسنه ، وابن ماجة (190) عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قال : " لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لِي : ( يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا ؟ ) ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي ، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قَالَ: ( أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ ؟ ) ، قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : ( مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً ، قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ ) ، قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ : ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ) آل عمران/ 169 ، وحسنه الألباني في " صحيح الترمذي " .
وروى البخاري (2097) ، ومسلم (715) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ : " كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ ، فَأَبْطَأَ بِي جَمَلِي وَأَعْيَا، فَأَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( جَابِرٌ ) : فَقُلْتُ: نَعَمْ ، قَالَ: ( مَا شَأْنُكَ ؟ ) ، قُلْتُ: أَبْطَأَ عَلَيَّ جَمَلِي وَأَعْيَا، فَتَخَلَّفْتُ ، فَنَزَلَ يَحْجُنُهُ بِمِحْجَنِهِ ثُمَّ قَالَ : ( ارْكَبْ )، فَرَكِبْتُ ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَكُفُّهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ...
ثُمَّ قَالَ : ( أَتَبِيعُ جَمَلَكَ ؟ ) ، قُلْتُ: نَعَمْ ، فَاشْتَرَاهُ مِنِّي بِأُوقِيَّةٍ ، ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلِي ، وَقَدِمْتُ بِالْغَدَاةِ ، فَجِئْنَا إِلَى المَسْجِدِ فَوَجَدْتُهُ عَلَى بَابِ المَسْجِدِ ، قَالَ: ( آلْآنَ قَدِمْتَ ؟ ) ، قُلْتُ: نَعَمْ ، قَالَ : ( فَدَعْ جَمَلَكَ ، فَادْخُلْ ، فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ) ، فَدَخَلْتُ فَصَلَّيْتُ ، فَأَمَرَ بِلاَلًا أَنْ يَزِنَ لَهُ أُوقِيَّةً ، فَوَزَنَ لِي بِلاَلٌ ، فَأَرْجَحَ لِي فِي المِيزَانِ ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى وَلَّيْتُ ، فَقَالَ: ( ادْعُ لِي جَابِرًا ) ، قُلْتُ: الآنَ يَرُدُّ عَلَيَّ الجَمَلَ ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُ ، قَالَ: ( خُذْ جَمَلَكَ ، وَلَكَ ثَمَنُهُ ) .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
" قَالَ السُّهَيْلِيُّ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانَ أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا وَالِدَهُ وَكَلَّمَهُ ، فَقَالَ لَهُ: تَمَنَّ عَلَيَّ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ شَهِيدٌ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ) وَزَادَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) ثُمَّ جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمُ الَّتِي اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ، فَقَالَ: ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) وَالرُّوحُ لِلْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ الْمَطِيَّةِ ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ : فَلِذَلِكَ اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَابِرٍ جَمَلَهُ وَهُوَ مَطِيَّتُهُ فَأَعْطَاهُ ثَمَنَهُ ، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ ، وَزَادَهُ مَعَ ذَلِكَ. قَالَ: فَفِيهِ تَحْقِيقٌ لِمَا كَانَ أَخْبَرَهُ بِهِ عَنْ أَبِيهِ .
وَهَذَا الَّذِي سَلَكَهُ السُّهَيْلِيُّ هَاهُنَا إِشَارَةٌ غَرِيبَةٌ وَتَخَيُّلٌ بَدِيعٌ ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ".
انتهى من " البداية والنهاية " (5/ 571-572) .
ومعنى كلام أبي القاسم السهيلي رحمه الله أن الحديث الأول أفاد أن الله تعالى أحيا أبا جابر رضي الله عنهما وكلمه وقال له : ( تمنّ عليّ ) وذلك أنه شهيد ، وقد اشترى الله من الشهداء أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، كما قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ )التوبة/ 111 ، ومن كان من أهل الجنة فله ما تشتهي نفسه ، وقد زاد الله تعالى أهل الجنة على هذا النعيم النظر إلى وجهه الكريم ، وهو معنى الزيادة في قوله : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) يونس/26 ، فالحسنى الجنة ، والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم ، كما سبق بيانه في جواب السؤال رقم : (14525) .
ثم جمع الله لأهل الجنة بين العِوَض والمعَوَّض ، فالعوض هو أرواحهم التي بذلوها حيث ردها الله عليهم ، والمعوض هو الجنة .
واشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جابر جمله ، ثم رده عليه ، فجمع له بين العوض والمعوض ، وهما : الجمل والثمن ، كما جمع الله لأبيه بين الجنة والروح .
وهناك وجه شبه بين الجمل والروح ، فالجمل مطية للإنسان – يبلغ به حاجته ، والروح كذلك ، فهي مطية الشهيد ليدخل بسببها الجنة .
وهذا المعنى الذي ذكره السهيلي قد يكون أو لا يكون هو المقصود من الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو مجرد تخيل من السهيلي ، ولا يمكن الجزم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إشارة إلى المعنى ، ولهذا قال ابن كثير رحمه الله عن هذا القول : "وهو إشارة غريبة ، وتخيل بديع " انتهى .
والله تعالى أعلم .
تعليق