الحمد لله.
أولا :
روى البخاري (6447) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : " مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ : ( مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا ؟ ) ، فَقَالَ : رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا ؟ ) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا ) .
وروى أحمد (21493) عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يَا أَبَا ذَرٍّ، ارْفَعْ بَصَرَكَ فَانْظُرْ أَرْفَعَ رَجُلٍ تَرَاهُ فِي الْمَسْجِدِ ) قَالَ: فَنَظَرْتُ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ عَلَيْهِ حُلَّةٌ، قَالَ: فَقُلْتُ: هَذَا ، قَالَ: فَقَالَ: ( يَا أَبَا ذَرٍّ، ارْفَعْ بَصَرَكَ فَانْظُرْ أَوْضَعَ رَجُلٍ تَرَاهُ فِي الْمَسْجِدِ ) قَالَ: فَنَظَرْتُ، فَإِذَا رَجُلٌ ضَعِيفٌ عَلَيْهِ أَخْلَاقٌ ، قَالَ: فَقُلْتُ: هَذَا.
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَهَذَا أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُرَابِ الْأَرْضِ مِثْلِ هَذَا ) .
وقال محققو المسند : إسناده صحيح على شرط الشيخين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله :
" ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
حَقِّ شَخْصَيْنِ : (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ مِثْلِ هَذَا )
فَصَارَ وَاحِدٌ مِنْ الْآدَمِيِّينَ خَيْرًا مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ بَنِي
جِنْسِهِ ؛ وَهَذَا تَبَايُنٌ عَظِيمٌ لَا يَحْصُلُ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ
الْحَيَوَانِ ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ مَنْ قَالَ : " مَا سَبَقَكُمْ
أَبُوبَكْرٍ بِفَضْلِ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَكِنْ بِشَيْءِ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ
". وَهُوَ الْيَقِينُ وَالْإِيمَانُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : (وُزِنْت بِالْأُمَّةِ فَرَجَحْت ثُمَّ وُزِنَ أَبُو بَكْرٍ
بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ رُفِعَ
الْمِيزَانُ) " .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (2/ 384-385).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه
الله :
" وَفِي الْحَدِيثِ : أَنَّ السِّيَادَةَ بِمُجَرَّدِ الدُّنْيَا لَا أَثَرَ لَهَا
، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِالْآخِرَةِ ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ
الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ ، وَأَنَّ الَّذِي يَفُوتُهُ الْحَظُّ مِنَ الدُّنْيَا
يُعَاضُ عَنْهُ بِحَسَنَةِ الْآخِرَةِ ، فَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِلْفَقْرِ كَمَا
تَرْجَمَ بِهِ ، لَكِنْ لَا حُجَّةَ فِيهِ لتفضيل الْفَقِير على الْغَنِيّ كَمَا
قَالَ ابن بَطَّالٍ ، لَكِنْ تَبَيَّنَ مِنْ سِيَاقِ طُرُقِ الْقِصَّةِ أَنَّ
جِهَةَ تَفْضِيلِهِ إِنَّمَا هِيَ لِفَضْلِهِ بِالتَّقْوَى .. " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه
الله :
" فهذان رجلان أحدهما من أشراف القوم ، وممن له كلمة فيهم ، وممن يجاب إذا خطب ،
ويسمع إذا قال ، والثاني بالعكس، رجل من ضعفاء الناس ليس له قيمة ، إن خطب فلا يجاب
، وإن شفع فلا يشفع ، وإن قال فلا يسمع .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (هذا خير من ملء الأرض مثل هذا ) أي : خير عند
الله عز وجل من ملء الأرض من مثل هذا الرجل الذي له شرف وجاه في قومه ؛ لأن الله
سبحانه وتعالى ليس ينظر إلى الشرف ، والجاه ، والنسب ، والمال ، والصورة ، واللباس
، والمركوب ، والمسكون ، وإنما ينظر إلى القلب والعمل ، فإذا صلح القلب فيما بينه
وبين الله عز وجل ، وأناب إلى الله ، وصار ذاكراً لله تعالى خائفاً منه ، مخبتاً
إليه ، عاملاً بما يرضي الله عز وجل ، فهذا هو الكريم عند الله، وهذا هو الوجيه
عنده، وهذا هو الذي لو أقسم على الله لأبره .
فيؤخذ من هذا فائدة عظيمة ، وهي أن الرجل قد يكون ذا منزلة عالية في الدنيا، ولكنه
ليس له قدر عند الله ، وقد يكون في الدنيا ذا مرتبة منحطة ، وليس له قيمة عند الناس
، وهو عند الله خير من كثير ممن سواه " .
انتهى من " شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 52-53) .
وحاصل ذلك كله :
أن مكانة العبد عند الله تعالى إنما هي باعتبار ما في قلبه من محبة لله ، وإخلاص
وإخبات ، وخوف ورجاء وتقوى ، وباعتبار العمل الذي يبرهن به صاحبه على ما في قلبه من
خصال الإيمان .
فمن كان أعظم محبة لله ، وخوفا ورجاء وتقوى : كان أحب إلى الله ، وبمقدار تفاوت ما
بين الناس من ذلك ، تتفاوت منازلهم عند الله ، حتى يصير الرجل الفقير الذي لا يؤبه
له ، بكمال إيمانه : خيرا من ملء الأرض من الغني الوجيه ضعيف الإيمان .
ولا يدل الحديث على أن المسلم الفقير أفضل وأحب إلى الله من المسلم الغني بإطلاق ،
فإن الصواب في هذه المسألة : أن أفضلهما أتقاهما ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله :
" وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ أَيُّمَا أَفْضَلُ : الْفَقِيرُ الصَّابِرُ أَوْ
الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ؟ وَالصَّحِيحُ : أَنَّ أَفْضَلَهُمَا أَتْقَاهُمَا ؛ فَإِنْ
اسْتَوَيَا فِي التَّقْوَى اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ " .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (11/ 21) .
وينظر جواب السؤال رقم : (13993) .
ثانيا :
ينبغي للمسلم تعظيم أمر اليمين ، فلا يقسم إلا بالله ، ولا يقسم إلا وهو صادق ، ولا
يتجارى في أمر اليمين فيقسم على كل شيء ، كلما أراد تحقيق قول أو تصديقه فيه ، أقسم
عليه بالله ، فهذا لا ينبغي لجلال اليمين ، وقد صرح أهل العلم بكراهة الإكثار من
الأيمان .
فيشترط للمسموح به من الأيمان عدة شروط :
- ألا يحلف الحالف إلا بالله .
- أن يكون الحالف صادقا فيما يحلف عليه ، أو يغلب على ظنه أنه صادق .
- ألا يحلف بمجرد الظن ، حتى يتيقن أو يغلب على ظنه أنه صادق في يمينه .
- ألا يحلف إلا عند الحاجة إلى اليمين ، كالحلف في الشهادة ، ونحو ذلك ، وفي الأمور
العلمية : إنما يحلف على شيء له خطر وأهمية ، يريد أن ينبه الناس على مكانه ،
ويدلهم عليه ، أو يرى أن الناس يتشككون فيه ، أو لا يقر في نفوسهم بمجرد الخبر ،
ونحو ذلك من المقاصد الشرعية والعلمية المعتبرة .
وانظر للاستزادة جواب السؤال رقم : (103041)
.
والله تعالى أعلم .
تعليق