الحمد لله.
مذهب أهل السنة الإيمان بكرامات الأولياء كما سبق بيانه في الفتوى رقم : (175604) , ومن هذه الكرامات البصيرة التي يهبها الله تعالى لمن يشاء من عباده ، ويتعرف بها على بعض حقائق الناس من خلال تعابير وجوههم ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ) البقرة/ 273 ، وقوله : ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) الفتح/ 29 ، أو من خلال كلامهم ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) محمد/ 30 .
قال ابن القيم رحمه الله في تفسير هذه الآية : "والمقصود : أنه سبحانه أقسم على معرفتهم من لحن خطابهم ؛ فإن معرفة المتكلم وما في ضميره من كلامه : أقرب من معرفته بسيماه وما في وجهه ؛ فإن دلالة الكلام على قصد قائله وضميره : أظهر من السيماء المرئية ، والفراسة تتعلق بالنوعين : بالنظر ، والسماع " انتهى من " مدارج السالكين " ( 2 / 483 ) .
وقال الفخر الرازي في تعريف الفراسة : "واشتقاقها من قولهم : فرس السبع الشاة ، فكأن الفراسة اختلاس المعارف ، وذلك ضربان : ضرب يحصل للإنسان عن خاطره ولا يعرف له سبب ، وذلك ضرب من الإلهام ، بل ضرب من الوحي ، وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (إن في أمتي لمحدثين وإن عمر لمنهم) ويسمى ذلك أيضاً النفث في الروع ، والضرب الثاني من الفراسة : ما يكون بصناعة متعلمة ، وهي الاستدلال بالأشكال الظاهرة على الأخلاق الباطنة " .
انتهى من " تفسير الرازي "(2 / 424) .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : " وكثير من الناس يعطيهم الله سبحانه وتعالى علماً بالفراسة ، يعلمون أحوال الإنسان بملامح وجهه ، ونظراته ، وكذلك بعض عباراته ، كما قال الله عز وجل : ( ولتعرفنهم في لحن القول ) محمد/ 30 " .
انتهى من تفسير سورة البقرة " ( 3 / 368 ) .
وقد ذكر عن السلف رضي الله عنهم في هذه الفراسة أشياء عجيبة ، ذكر ابن القيم رحمه الله بعضها في "مدارج السالكين" (2/486) .
هذا من حيث الأصل . أما بخصوص هذا الشخص الذي تتحدثين عنه فلا يظهر لنا صدقه ، وذلك لما يلي :
أولا :
لأن هذا الرجل ذكر أن معرفته بهذه الأشياء ليست من باب الفراسة ، وغاية ما ذكره : أن الله أطلعه على الغيب على سبيل التفصيل .
ولا شك أن هذا القول باطل ، لأن الله تعالى لم يطلع أحداً على شيء من الغيب إلا الرسل .
قال الله تعالى : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) الجن/26-27.
ثانيا :
معرفة جميع ما يفعله شخص من المعاصي والأخطاء – وإن كان ممكنا عقلا – إلا أننا لا نعلم أن هذا قد أعطاه الله لأحد من البشر ، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم ، معه منافقون في المدينة وهو لا يعلمهم ، وتخفى عليه أعمالهم ، قال الله تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) التوبة/ 101 .
جاء في "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" (10 / 69) : "صرح في هذه الآية الكريمة أن من الأعراب ومن أهل المدينة منافقين لا يعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر تعالى نظير ذلك عن نوح في قوله عنه: (قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)" انتهى.
ولم يرد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينظر في وجوه أصحابه فيعلم جميع ما عملوه من المعاصي أو المخالفات , أفأُعطي هذا الرجل من الفراسة والكرامة ما لم يعطه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
ثالثا:
أن عادة أولياء الله الصالحين الذي يؤيدهم الله سبحانه بالكرامات أنهم يخفونها ولا يظهرونها, حتى قال بعض أهل العلم :" كما أوجب اللَّه عَلَى الأنبياء إظهار المعجزات أوجب عَلَى الأولياء إخفاء الكرامات" انتهى من " ذيل طبقات الحنابلة " (4 / 66).
وذلك لأن أولياء الله تعالى هم أكثر الخلق إخلاصا لله تعالى ، ولا يريدون العلو على الناس وإظهار الفضل عليهم ، ومن فعل ذلك لم يكن من أولياء الله المتقين .
تعليق