الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

هل كتب البلاذري التاريخية موثوقة ؟

224365

تاريخ النشر : 02-03-2015

المشاهدات : 54999

السؤال


أثبتم بطلان الكثير من الادعاءات التاريخية المذكورة في كتاب " جمل من أنساب الأشراف " للإمام البلاذري رحمه الله تعالى : كاغتيال عمر بن الخطاب لسعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهما ، في السؤال رقم : (219532) . واعتداء عمر بن الخطاب على فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنهم ، في السؤال رقم : (98641). وبطلان صحة حديث يذم معاوية في السؤال رقم : (210844). بعد هذه الأمثلة ، هل يجوز - مع كامل الاحترام للإمام البلاذري رحمه الله - أن نعتبر الكتاب المذكور مصدرا موثوقا في سرد السيرة والتاريخ الإسلامي بشكل عام ؟

ملخص الجواب

والخلاصة أن الباحث المحقق لا يعتمد على موثوقية الكاتب أو الكتاب ، بقدر ما يستند إلى الدرس الخاص بالرواية نفسها ، وذلك بتمحيص أسانيدها وأركانها ، وعرضها على النقد الداخلي والخارجي ، ليصير إلى النتيجة في كل رواية على حدة ، وبهذا ينتفع الباحث من كتب التاريخ كلها حتى لو اشتملت على بعض الروايات الغريبة المنكرة ، كما في كتب البلاذري . وهذا ما سلكه المحققون من العلماء ، كالحافظ المزي ، والذهبي ، والحافظ ابن حجر ، ومن المتأخرين العلامة محمد رشيد رضا ، والشيخ الألباني رحمهم الله جميعا ، وغيرهم من علماء الرجال والتاريخ المتأخرين ، امتلأت كتبهم بالاعتماد على كثير من مرويات البلاذري ، ولم يردها أحد لمجرد ورودها من طريقه ، وإنما كانوا يقيمون البحث الخاص للتحقق من الرواية ، كما هو الشأن في التعامل مع أي كتاب . للفائدة ، ينظر جواب السؤال رقم : (105660) . والله أعلم .

الجواب

الحمد لله.


إطلاق وصف " الموثوقية " أو عدمها على كتب البلاذري لن يخلو من بعض الميل والحيف ، وذلك أن أكثر كتب التاريخ المسندة – وكتب البلاذري منها – كانت تعتمد مبدأين اثنين في سرد مروياتها :
الأول :
توثيق الحكاية والرواية وتدوينها كما بلغت ، مع الإحالة إلى الإسناد الذي تحمَّل تلك الرواية ، وإخلاء العهدة عن المسؤولية تجاه صحة الحادثة أو كذبها أو خطئها ، وهذا المبدأ يقتصر على أمانة النقل ، والرغبة في الجمع والسرد المجردين ، من غير تدخل في النقد ، ولا اجتهاد في الاختيار والتمحيص ، كي لا تفقد الكتب والصحف أيا من الروايات والأخبار تحت غطاء النقد والتمييز .
الثاني :
جمع الطرق والروايات الواردة في الشيء المروي ، بحيث يتمكن الناقد من النظر في جميع ذلك ، ويميز الثابت منها ، من غير الثابت ، ليقارن بينها ، وينتقي من غير الثابتة ما يصلح في الشواهد والمتابعات ، ويمكن الاستئناس به .

مع التنبيه إلى أن المعتاد السائر في عمل المؤرخين : هو قدر من التساهل والتخفيف في أمر المرويات التاريخية ، بما لا يعتاد مثله ، ولا يقبل في أمر المرويات الشرعية والآثار النبوية .
وقد سبق التعرض لشيء من هذا المعنى في الموقع في جواب السؤال رقم : (105726) ،
والإمام أحمد بن يحيى البلاذري (ت279هـ) اعتمد في كتبه هذين المبدأين ، مع قدر جيد من الانتقاء والاختيار والاجتهادات النقدية للمرويات .
ولكن الدراسة العملية التطبيقية أثبتت لنا اشتمال كتبه على الكثير من المرويات التي ينفرد بها ، أو التي هي محل شك وتردد ، يسوقها أحيانا خطأ على وجه الاعتماد ، وأحيانا أخرى يسوقها بمقصد الجمع والسرد وإحالة العهدة على الإسناد لا غير ، كما هي عادة المؤرخين ، لا يختلف في ذلك عن الإمام الطبري مثلا ، الذي امتلأت مؤلفاته التاريخية بالمرويات غير الثابتة ، ولم يكن ذلك سبيلا للطعن في شخصه ، فهو إمام يسلم الجميع بإمامته ، وإنما فسر العلماء مسلكه هذا في ضوء المبدأين اللذين سبق تقريرهما.
وهكذا الشأن في الإمام البلاذري ، فقد وصفه ياقوت الحموي في " معجم الأدباء " (2/531) بقوله : " كان عالما فاضلا شاعرا راوية نسابة متقنا ، وكان مع ذلك كثير الهجاء بذيء اللسان آخذا لأعراض الناس ".
ونعته الإمام الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (13/162) بأنه " العلامة الأديب المصنف ". وقال عنه في " تاريخ الإسلام " (6/505): " له كتب جياد . وهو صاحب كتاب البلدان ، صنفه وأحسن تصنيفه ".

وهكذا لم نجد في المحدثين من يتهمه بالكذب ، أو نكارة الحديث ، وغاية ما هنالك وصفه بالهجاء وذرب اللسان ، والله يعفو عنا وعنه .

وقد استدل العلماء على تحري البلاذري في كتبه – في كثير من الأحيان وليس دائما – بقوله في بعض المواضع : " وقد روى ذلك ولا أدري من أين جاء به من رواه ".
وقوله : " حدثني هشام بن عمار في إسناد له لم أحفظه ".
وبأنه في أحيان كثيرة يرجح بين الروايات ، ويظهر رأيه ونقده فيقول مثلا : " والخبر الأول أثبت "، ونحو ذلك من العبارات .
وهذه كلها أمثلة تدل على قدر من التحري والتدقيق يبذله رحمه الله في كتبه .
ويقول الدكتور عبد العزيز الدوري :
" وقد شهد النصف الثاني للقرن الثالث الهجري ظهور مؤرخين لا تحدهم مدرسة أو اتجاه مما ذكر ، بل حاولوا أن يستفيدوا من مواد السيرة ، ومن كتب الإخباريين ، ومن كتب الأنساب والمصادر الأخرى المتيسرة ، وشملت دراستهم الأمة بصورة منظمة ، وكان عملهم انتقاء المادة بعد النقد ، وأفقهم عاما أو عالميا .
وأول ممثل للتطور الجديد هو أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري (ت279هـ/892م). وله كتابان مهمان هما " فتوح البلدان "، و" أنساب الأشراف ".
أما فتوح البلدان فيبحث تاريخ الفتوحات الإسلامية ، ويقدم قصة متسلسلة لفتح كل مصر . وقد أخذ البلاذري مادته من الكتب الخاصة بفتوح كل مصر ، ومن المواد التي استطاع جمعها خلال زيارته للأمصار ، ومن الروايات الأخرى المتيسرة . وطريقته في الكتابة تكمن في أنه ينتقي المادة بعد الغربلة والنقد ، ويعطي صورة متزنة للحوادث ، مع تجنب إيراد روايات متعددة حول الحادث ، وهو يعتمد كثيرا على روايات المدينة التي تتصف بالحياد والدقة أكثر من غيرها ، كما أنه استفاد بالدرجة الأولى من الروايات المحلية . وقد أورد البلاذري كثيرا من المعلومات القيمة عن النواحي الثقافية والاقتصادية والإدارية .
أما " أنساب الأشراف " فهو كتاب عام للتاريخ الإسلامي في إطار الأنساب ، وهو يمثل مزيجا فذا في الخطة والمادة . فخطته تجمع بين أساليب كتابة كتب الطبقات وكتب الأخبار وكتب الأنساب . وتشمل سيرة كل خليفة الأحداث التي وقعت على عهده ، بما في ذلك فعاليات الأحزاب السياسية ، مع عناوين فرعية للحوادث المهمة تشبه عناوين " كتب " الإخباريين . وهو يراعي التسلسل التاريخي عادة ، ومع ذلك توجد استثناءات فرضتها ضرورة مراعاة تسلسل النسب ( مثلا يرد الكلام عن يزيد قبل عثمان بن عفان ).
ينقد البلاذري مصادره قبل الأخذ عنها . ولكننا نلاحظ أن الآراء عن المؤرخين السابقين قد استقرت في عصره . وهذا ينعكس في مثل قوله " الواقدي في إسناده "، و" أبومخنف في إسناده " الخ .
ويظهر أن بعض الروايات كانت مقبولة لدى عامة المؤرخين كما يظهر من بعض أخباره التي تبدأ بـ " قالوا ".
ويظهر أن البلاذري في انتقائه لمادته التاريخية أعطى أهمية خاصة للروايات التي تعود للمنطقة التي وقع فيها الحادث ، وأتمها بروايات أخرى حول الموضوع .
فمثلا في حديثه عن " الشورى " يعتمد بالدرجة الأولى على الواقدي والزهري (المدينة)، ويضيف إلى ذلك روايات عن أبي مخنف (وهي أقرب للعلويين)، ويأخذ عن الزبير بن بكار فيما يخص الأنساب . وفي أخباره عن عبد الملك بن مروان يعتمد كثيرا على المدائني (عن عوانة بن الحكم)، وعلى عوانة بن الحكم والواقدي (دمشق والمدينة)، ويضيف إلى ذلك بعض الروايات العراقية . وفي أخباره عن وقعة (الحرة) يستند بصورة أساسية إلى المدائني والواقدي وعوانة وأشياخ من المدينة ، وبذلك يعطي روايات مدنية وأموية .
أما مصادر البلاذري فمؤلفات مكتوبة وروايات شفوية . فبعض التعابير مثل "حدثني" و"قال لي" تشير إلى روايات شفوية مباشرة ، بينما تشير "روي" بصورة عامة إلى مؤلفات مكتوبة ، في حين أن " قال " تعني أخذ رواية شفوية أو الأخذ من كتاب .
ويستعمل البلاذري الإسناد عادة في بعض رواياته التي تتعلق بحوادث المدينة زمن الراشدين ، وفي بعض الروايات المنفردة ، وإلا فإنه يأخذ عن مصدر سلسلة إسناده معروفة ، فيكتفي بذكره. وكثيرا ما يستعمل الإسناد الجمعي ليدل على الاتفاق على المعلومات الأساسية ، ثم يورد إضافات بسيطة .
ويحدث أحيانا أن يورد البلاذري عدة روايات ، بينها شيء من الاختلاف حول الموضوع نفسه . وترد لديه بعض الروايات المنفردة دون إسناد .
على الرغم من اتصاله بالعباسيين إلا أن البلاذري محايد في أخباره ، ومتزن ، فهو يفسح المجال للروايات كافة ، ويحاول بصورة جدية أن يكون موضوعيا في أخباره .
ويعبر البلاذري في " أنساب الأشراف " عن فكرة وحدة الأمة واتصال خبراتها في التاريخ الإسلامي . أما " فتوح البلدان " فيظهر قيمة خبرة الأمة للأغراض الإدارية والتشريعية " .
انتهى من " نشأة علم التاريخ عند العرب " (ص56-58) .
وللتوسع ينظر :
1. صلاح الدين المنجد ، مقدمة تحقيق كتاب "فتوح البلدان"، دار القاهرة.
2. فوزي ساعاتي، " موارد البلاذري في كتابه فتوح البلدان " ، رسالة دكتوراة في جامعة أم القرى، 1989م.
3. صفاء حافظ، " البلاذري ومنهجه في فتوح البلدان " ، (ص29-42) .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب