الحمد لله.
أولا :
نزل القرآن الكريم ليتدبره الناس ، ويعملوا بأحكامه وشرائعه ، ويتأدبوا بآدابه ، قال تعالى : ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) ص / 29. وقال تعالى : ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ) الزمر / 18.
فعلى المسلم أن يعمل جهده في فهم كتاب الله ؛ لأن فهمه سبيل تدبره والعمل به ، إلا أنه مأجور على حفظه وتلاوته ، على كل حال ، فهمه أو لم يفهمه .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" الإنسان مأجور على قراءته سواء فهم معناه أم لم يفهم ، ولكن لا ينبغي للمؤمن أن يقرأ قرآناً مكلفاً بالعمل به ، بدون أن يفهم معناه ، فالإنسان لو أراد أن يتعلم الطب مثلاً ، ودرس كتب الطب ، فإنه لا يمكن أن يستفيد منها حتى يعرف معناها وتشرح له ، بل هو يحرص كل الحرص على أن يفهم معناها من أجل أن يطبقها، فما بالك بكتاب الله سبحانه وتعالى ، الذي هو شفاء لما في الصدور وموعظة للناس ، أن يقرأه الإنسان بدون تدبر وبدون فهم لمعناه ، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم ، لا يتجاوزون عشر آيات ، حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل ، فتعلموا القرآن والعلم والعمل جميعاً .
فالإنسان مثاب ومأجور على قراءة القرآن ، سواء فهم معناه أم لم يفهم ، ولكن ينبغي له أن يحرص كل الحرص على فهم معناه ، وأن يتلقى هذا المعنى من العلماء الموثوقين في علمهم وأمانتهم " .
انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (5/ 2) بترقيم الشاملة .
ثانيا :
لا يعني ذلك أن الجاهل الذي لا يفهم معاني الآيات يكون معذورا في ارتكابه ما حرم الله ، فإن الله قد يسر القرآن للذكر ، وهيأه للعلم والعمل به ، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) القمر/17 . قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" أي: أن من قرأ القرآن ليتذكر به ويتعظ به سهل عليه ذلك، واتعظ وانتفع ".
انتهى من "لقاء الباب المفتوح" (183/ 7) بترقيم الشاملة .
والكثير من أحكام الإسلام يعلمها كل مسلم ، فلا يغيب على عالم ولا جاهل ، ولا على قارئ ولا أمِّي ، ولا على ذكر ولا أنثى ، ولا صغير ولا كبير ، حفظ القرآن أم لم يحفظه : أن التهاون بالصلوات المكتوبات ، والسخرية بالمسلمين والاستهزاء بهم ، وبذاءة اللسان ، مما حرم الله في كتابه ، ولا يقرأ أحد آيات القرآن المجيد التي تحض على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، والتخلق بالخلق الحسن ونحو ذلك ، وتنهى عن السخرية من الناس ، وفحش القول وسيء الخلق ونحو ذلك : إلا ويفقه معانيها ، ويعلم أحكامها ، ولا يقبل من أحد في مثل هذه الأحكام الظاهرة أن يقول : لا أفقه القرآن ، ولا أعلم معانيه ؛ اللهم إلا أن يكون أعجميا ، حديث العهد بالإسلام ، أو نحو ذلك .
وقد ورد الوعيد الشديد على من ترك العمل بالقرآن الكريم ، وذلك في حديث سمرة بن جندب الطويل ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّؤْيَا التي رآها في عقوبة بعض العصاة في القبر ، قَالَ : ( أَمَّا الَّذِي يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالحَجَرِ ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفِضُهُ ، وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاَةِ المَكْتُوبَةِ ) رواه البخاري (1143) .
يقول ابن بطال رحمه الله :
" ( يأخذ القرآن فيرفضه ) يعني : يترك حفظ حروفه والعمل بمعانيه ، فأما إذا ترك حفظ حروفه وعَمِل بمعانيه فليس برافض له " .
انتهى من " شرح صحيح البخاري " (3/135) .
وينظر جواب السؤال رقم : (50591).
هذا مع أن طائفة من هذه
الأخلاق والمنكرات : هي مما استقر في الفطر ذمه ، والنفور منه ، حتى لو لم يكن صاحب
ذلك مسلما أصلا !!
انظر جواب السؤال رقم : (224035) .
ثالثا :
لا شك أن مدارسة القرآن وتلاوته وحفظه من أفضل العمل الصالح ، وقد حث النبي صلى
الله عليه وسلم على تعاهد القرآن خشية نسيانه .
ونسيان القرآن من الأفعال المذمومة ؛ لما فيها من النقص والإعراض عن كتاب الله
وهجره .
انظر جواب السؤال رقم : (3704) .
وقد اختلف أهل العلم في حكم
نسيان القرآن :
فقيل : كبيرة .
وقيل : معصية وذنب ، ولا يبلغ مبلغ الكبائر .
وقيل - وهو الراجح - : مصيبة أو عقوبة .
ولكن ، لا يليق بالحافظ له أن يغفل عن تلاوته ، ولا أن يفرط في تعاهده ، بل ينبغي
أن يتخذ لنفسه منه ورداً يوميّاً يساعده على ضبطه ، ويحول دون نسيانه ؛ رجاء الأجر
، والاستفادة من أحكامه .
ينظر جواب السؤال رقم : (127485) .
فينبغي على كل من حفظ شيئا
من القرآن أن يحافظ عليه ، ويتعاهده بالمراجعة ؛ لئلا يتفلت منه ، ولكن لو حفظ شيئا
منه ونسيه لم يعاقب على مجرد ذلك ، إلا أن يؤدي به نسيانه إلى هجره ، ومخالفة
أحكامه ، واتباع هوى النفس ، فإنه حينئذ يعاقب على ذلك .
ومن حفظ شيئا من القرآن ، ثم نسي بعضه ، فإنه يؤجر يوم القيامة على ما حفظ ، كما
يؤجر على ما تلا ولو لم يحفظ ، لعموم قوله تعالى :( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ )
الزلزلة/ 7، 8 .
والله أعلم .
تعليق