الحمد لله.
أولا:
عودة الميت إلى الحياة الدنيا والعيش مرة أخرى والمخاطبة بالتكاليف الشرعية كغيره من الناس = هذا لا يمكن ، من حيث الأصل ، وما جرت به سنة الله في خلقه ، كما نص على ذلك الوحي ، ومن ذلك :
قال الله تعالى : ( وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ) الأنبياء (95) .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
" ( وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ ) قال ابن عباس: وجب ، يعني : قدرا مقدرا أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة ....
وفي رواية عن ابن عباس: ( أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ) أي : لا يتوبون .
والقول الأول أظهر، والله أعلم " انتهى من " تفسير ابن كثير " (5 / 372) .
وقال الله تعالى : ( وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ، وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) المنافقون (10 - 11) .
وهذا دليل على أن النفس إذا جاءها أجله الذي أجله الله لها ، لم تعد بعد ذلك إلى دار الدنيا ، وإذا كان مجرد تأخير الموت غير واقع ، فأولى ألا يقع لها العود إلى دار الدنيا ، بعد انتقالها إلى دار الآخرة .
وعن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ ، قَال : ( لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لِي: يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا ؟ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي قُتِلَ يَومَ أُحُدٍ ، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا ، قَالَ: أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا. فَقَالَ : يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ . قَالَ : يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً . قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ : إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي ( أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ ) . ) رواه الترمذي وحسّنه (3010) وابن ماجة (190) ، وحسنه الألباني في " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (3290) .
فالحديث قد دل على أنه لا يمكن للميت الرجوع إلى الحياة لمباشرة التكاليف مرة أخرى ، فعبد الله رضي الله عنه تمنى الرجوع للدنيا من أجل الاستزادة من العمل الصالح ، فأخبره الله تعالى بأن قضاء الله السابق في عباده : أن ذلك لا يكون !!
ثانيا :
كتاب " من عاش بعد الموت " مؤلفه هو الحافظ أبو بكر، عبد الله بن محمد المشهور بـ "
ابن أبي الدنيا " المتوفى سنة 281 ه .
وظاهر عنوان الكتاب قد يوهم القارئ إمكانية رجوع أيّ ميت إلى الحياة والعيش فيها
وممارسة التكاليف بعد أن كان قد مات ، لكن أغلب مضمونه ومحتواه لا يثبت هذا .
فالكتاب – على وفق طبعة مكتبة السنّة في سنة 1993 – احتوى على 63 أثرا ، وهذه
الآثار من حيث العموم يمكن تقسيمها إلى قسمين :
القسم الأول : وهو أكثر آثار الكتاب هو عن أشخاص تكلموا فقط بعد الموت ، وليس فيها
أنهم عاشوا فترة أخرى بعد الموت ، وكثير من هذه الآثار ضعيفة ، وقد صحح أهل العلم
بعضها .
قال البيهقي رحمه الله تعالى :
"وقد روي في التكلم بعد الموت عن جماعة بأسانيد صحيحة" انتهى "دلائل النبوة" (6 /
58).
وهذا الذي صحّ منها ؛ الأصل في مثله : أنه وقع بعد إغماء وخفوت النبض ، وقبل وقوع
الموت حقيقة ، كما في الآثار (رقم 13 ، 21) .
ومن ذلك الأثر ( رقم 3 ) عن كلام زيد بن خارجة بعد موته ، حيث حمله ابن عبد البر
على أنه وقع قبل موته ، قال رحمه الله تعالى :
" زيد بن خارجة بن زيد بن أبي زهير بن مالك ، من بني الحارث بن الخزرج . روى عن
النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي تكلم بعد
الموت ، لا يختلفون في ذلك ، وذلك أنه غشي عليه قبل موته ، وأسري بروحه ، فسجّى
عليه بثوبه ، ثم راجعته نفسه ، فتكلم بكلام حفظ عنه في أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ،
ثم مات في حينه " انتهى من " الاستيعاب في معرفة الأصحاب " (2 / 547) .
قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله تعالى :
" وكما أن مجرد توقف القلب ليس حقيقة للوفاة ، بل هو من علاماته ، إذ من الجائز
جداً توقف القلب ثم تعود الحياة بواسطة الإنعاش أو بدون بذل أي سبب ، ومن هنا ندرك
معنى ما ألف فيه بعض علماء الإسلام باسم : " من عاش بعد الموت " لابن أبي الدنيا
وهو مطبوع . وما يذكره العلماء عرضاً في بعض التراجم من أن فلاناً عاش بعد الموت أو
تكلم بعد الموت " انتهى من " فقه النوازل " (1 / 233) .
والقليل الذي صح من ذلك ، وكان بعد الموت حقيقة : إنما وقع معجزة لنبي من
الأنبياء ، أو كرامة قصها الله في كتابه ، أو أخبر به نبي من أنبيائه ، لحاجة للناس
إليها ، في زمانها ، أو حجة يقيم الله بها أمرا من الحق ، على الناس في زمانها ،
كما في قصة بقرة بني إسرائيل في سورة البقرة ، وقصة الذي أماته الله مائة عام ،
وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، ونحو ذلك .
قال الله تعالى: ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى
اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ، ثُمَّ
بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) البقرة (55 – 56) .
وقال تعالى : ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى
عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ
اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا
أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ
وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً
لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
) البقرة (259) .
وما ورد في كتاب "ابن أبي الدنيا" ، مما ظاهره : العيش بعد الموت حقيقة ؛ فهذه
رويت بأسانيد ضعيفة لضعف الرواة أو جهالتهم أو بسبب انقطاع السند ، الآثار( رقم 1 ،
2 ، 59 ، 60) .
وهذه الآثار الضعيفة لا يلزم من ذكر المؤلف لها أنه مصدق بها ، فمن عادة بعض
المؤلفين في عصره أن يذكروا كل ما اطلعوا عليه من الروايات حتى وإن كانوا يرون ضعف
سنده .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" والاكتفاء بالحوالة على النظر في الإسناد طريقة معروفة لكثير من المحدثين وعليها
يحمل ما صدر من كثير منهم من إيراد الأحاديث الساقطة معرضين عن بيانها صريحا ، وقد
وقع هذا لجماعة من كبار الأئمة ، وكان ذكر الإسناد عندهم من جملة البيان " انتهى من
" النكت على كتاب ابن الصلاح " (1 / 128) .
تعليق