الأحد 23 جمادى الأولى 1446 - 24 نوفمبر 2024
العربية

من قلد أحد العلماء في مسألة اجتهادية ثم تبين له رجحان القول الآخر، فماذا يلزمه؟

السؤال

أنا فتاة ، وعرفت من موقعكم فتوى بخصوص كفارة اليمين : أنها لا تصح أن تكون بالنقود ، وقد كفرت في السابق قبل أن اقرأ الفتوى ، هل أكفر من جديد عما سبق ، علما بأنني لا أعلم عددها ؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:
إخراج كفارة اليمين نقودا من المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها العلماء ، وقد سبق في الفتوى رقم : (124274) أن الراجح أن إخراجها نقودا لا يجزئ ، وأن هذا هو مذهب جمهور العلماء ،
وقد خالف في ذلك أبو حنيفة رحمه الله فأجاز إخراجها نقودا .

ثانيا :
المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها العلماء – وهي المسائل التي لم يرد بحكمها نص قاطع ، أو قريب منه ، في القرآن الكريم ، أو السنة النبوية ، وإنما هي استنباطات للعلماء - : من قلد فيها عالما من العلماء ، فلا حرج عليه في ذلك ، فإن تبين له بعد ذلك أن هناك قولا آخر أرجح مما عمل به ، فإنه ينتقل إلى العمل بما ظهر له أنه أرجح ، وما فعله على القول الأول فهو صحيح مجزئ ، لا يؤمر بإعادته .
وهذا أصل عام ، في نظائر ذلك من المسائل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ لَا تُنْكَرُ بِالْيَدِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ فِيهَا ؛ وَلَكِنْ يَتَكَلَّمُ فِيهَا بِالْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ ، فَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّةُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ تَبِعَهُ ، وَمَنْ قَلَّدَ أَهْلَ الْقَوْلِ الْآخَرِ : فَلَا إنْكَارَ عَلَيْه " انتهى من " مجموع الفتاوى" (30/80) .

وقد ذكر شيخ الإسلام مسألة اختلف فيها الأئمة : هل يثبت بها التحريم في النكاح أم لا ؟
فكان مما قال :
"وَقَدْ ذَهَبَ إلَى كُلِّ قَوْلٍ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: كَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: يُبِيحُونَ ذَلِكَ؛ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَمَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: يُحَرِّمُونَ ذَلِكَ .
فَهَذِهِ إذَا قَلَّدَ الْإِنْسَانُ فِيهَا أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ جَازَ ذَلِكَ " انتهى من " مجموع الفتاوى " (32/140) .

وسئل رحمه الله عن حيلة من الحيل أفتى بها بعض العلماء حتى لا يقع طلاق على الزوج ، تسمى بـ "مسألة ابن سريج" فقال :
"هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُحْدَثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ ؛ وَلَمْ يُفْتِ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ وَإِنَّمَا أَفْتَى بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جَمَاعَةُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ قَلَّدَ فِيهَا شَخْصًا ، ثُمَّ تَابَ : فَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ، وَلَا يُفَارِقُ امْرَأَتَهُ إذَا كَانَ مُتَأَوِّلًا " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " (33/244) .

وسئل رحمه الله عن بعض المعاملات التي يتخذها الناس حيلة على الربا ، وقد أفتى بجوازها بعض العلماء ، فذكر الأدلة على تحريمها ، ثم قال :
"وَمَا اكْتَسَبَهُ الرَّجُلُ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالْمُعَامَلَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ ، كَهَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا وَغَيْرِهَا ، وَكَانَ مُتَأَوِّلًا فِي ذَلِكَ ، وَمُعْتَقِدًا جَوَازَهُ لِاجْتِهَادِ ، أَوْ تَقْلِيدٍ ، أَوْ تَشَبُّهٍ بِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، أَوْ لِأَنَّهُ أَفْتَاهُ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأَمْوَالُ الَّتِي كَسَبُوهَا وَقَبَضُوهَا : لَيْسَ عَلَيْهِمْ إخْرَاجُهَا ، وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُخْطِئِينَ فِي ذَلِكَ ، وَأَنَّ الَّذِي أَفْتَاهُمْ أَخْطَأَ ، فَإِنَّهُمْ قَبَضُوهَا بِتَأْوِيلِ ... لَكِنْ عَلَيْهِمْ إذَا سَمِعُوا الْعِلْمَ : أَنْ يَتُوبُوا مِنْ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ .." .
انتهى من " مجموع الفتاوى " (29/443- 445) .
فأمر من علم تحريمها بالالتزام بذلك ، ولا يجوز له في هذه الحالة تقليد من يفتي بجوازها ، أما الأموال التي اكتسبها بهذه المعاملات التي تأول فيها : فإنه لا يلزمه أن يتصدق بشيء فيها ، بل ملكه لها صحيح .

وقد سئل الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله عمن يقوم بإخراج زكاة الفطر نقودا .
فأجاب : "إخراج زكاة الفطر نقودا غلط ، ولا يجزئ صاحبَه ، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) أي مردود عليه .
وثبت في البخاري وغيره عن ابن عمر : (فرض رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير) ، فرضها صاعا من تمر أو صاعا من شعير ، والفرض يعني الواجب القطعي .
لكن بعض أهل العلم رحمهم الله جوز أن يخرجها من النقود ، فمن قلد هؤلاء وأخرج : فهي مجزئة ، إذا كان لا يعلم الحق في هذه المسألة .
وأما من علم أنه لابد أن تكون من طعام ، ولكنه أخرج النقود لأنها أسهل له وأيسر : فإنها لا تجزئه" انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (10/2) الشاملة .

وبناء على ما سبق : فإن إخراجك لكفارة اليمين نقودا ، فيما سبق : مجزئ عنك ، ولا يلزمك إعادة إخراج الكفارة ، وإنما يلزمك فيما يأتي من الأيمان أن تخرجيها طعاما .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب