الحمد لله.
ما صحة مقولة (لقمة في بطن جائع خير من بناء ألف جامع)؟
هذه المقولة: "لقمة في فم جائع، خير من بناء ألف جامع"، قد يظن بعض الناس أنها حديث نبوي، وهذا ليس بصحيح .
قال العجلوني في "كشف الخفاء" (2 / 145): "(لقمة في بطن الجائع أفضل من عمارة ألف جامع) الظاهر أنه ليس بحديث" انتهى .
وقال محمد بن محمد درويش الحوت الشافعي رحمه الله تعالى: "(لقمة في بطن جائع خير من بناء جامع): ليس بحديث" انتهى من " أسنى المطالب " (ص 250) .
وهي مقولة باطلة من حيث المعنى، فكيف يصح تفضيل لقمة واحدة على بناء ألف مسجد يعبد الله فيها؟!
وتفضيل الأعمال بعضها على بعض بهذه الطريقة وإثبات المفاضلة بالعدد لا يمكن معرفته إلا بثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو باب لا يدخله الاجتهاد ولا القياس.
هل الأفضل إطعام الجائع أو بناء المسجد؟
إذا نظرنا إلى هذه المسألة من حيث الأصل، فلا شك أن بناء مسجد واحد أفضل من إطعام الجائع:
-
فالمسجد يحقق مصالح المسلمين الدينية، وإطعام الجائع يحقق من حيث الأصل مصلحة دنيوية، ولا شك أن المصالح الدينية أولى ومقدمة على المصالح الدنيوية.
قال ابن الأمير الحاج رحمه الله تعالى:
" (ويقدم حفظ الدين) من الضروريات على ما عداه عند المعارضة لأنه المقصود الأعظم قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وغيره مقصود من أجله، ولأن ثمرته أكمل الثمرات، وهي نيل السعادة الأبدية في جوار رب العالمين " .
انتهى من " التقرير والتحبير " (3/294).
-
إطعام الجائع الواحد أو عدة جائعين هو نفع متعد لفئة محدودة ومصلحته محدودة، أما بناء المسجد الواحد فنفعه متعد لجماعة المسلمين والمصالح المتولدة عنه أيضا متعددة فيحقق مصلحة إقامة الشعائر وتفقيه المسلمين وتربيتهم وجمع كلمتهم وحلّ مشاكلهم .
ولا شك أن فعلا يتعدى نفعه إلى كثيرين والمصالح الناشئة عنه كثيرة هو أفضل من فعل يتعدى نفعه لفئة قليلة، والمصالح الناشئة عنه أقل .
قال عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى:
" كل مطيع لله محسن إلى نفسه، فإن كان إحسانه متعديا إلى غيره تعدّد أجره بتعدد من تعلق به إحسانه، وكان أجره على ذلك مختلفا باختلاف ما تسبّب إليه من جلب المصالح ودرء المفاسد " انتهى من " القواعد الكبرى " (2 / 394) .
-
إطعام الجائع هو صدقة غير جارية من حيث الأصل، أمّا بناء المسجد الواحد فهو صدقة جارية يبقى أجرها مستمرا يلحق الباني ما بقي هذا المسجد .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ رواه ابن ماجه (242)، وحسّنه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه ".
الترجيح بين المصالح في حالة التعارض
ما سبق ذكره من المفاضلة هو من حيث الأصل، لكن الأولى والأفضل هو القيام بهما معا إذا كانت هناك قدرة .
قال عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى:
" إذا اجتمعت المصالح الأخروية الخالصة، فإن أمكن تحصيلها حصلناها، وإن تعذر تحصيلها حصلنا الأصلح فالأصلح والأفضل فالأفضل " .انتهى من " القواعد الكبرى " (1 / 91) .
لكن إذا تعارضا ولم يمكن القيام إلا بواحد منهما، فهنا يرجع إلى الترجيح بين هذه المصالح، كما مرّ في كلام الشيخ عز الدين بن عبد السلام .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" الشّريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنّها ترجّح خير الخيرين وشرّ الشّرّين، وتحصيل أعظم المصلحَتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتَين باحتمال أدناهما " انتهى من " مجموع الفتاوى " (20/48) .
وفي هذه الحالة قد يقترن بإطعام الجائع من القرائن في بعض الأحيان ما يجعله أفضل من بناء الجامع .فمثلا: البلدة التي أصابتها مجاعة تهدّ قوة أهلها وتقعدهم عن الحركة فإطعامهم في هذه الحالة أولى من بناء مسجد لهم لن يأتي إليه أحد، وموتهم بسبب الجوع مفسدة لا يمكن تداركها، أما بناء المسجد فيمكن تداركه في المستقبل .
أو بلدة للمسلمين في حالة حرب وتكالب عليها الأعداء ونفذ طعامهم فلا شك أن تقوية شوكتهم بالطعام أولى من بناء مسجد تهدمه المعارك.
والله أعلم .
تعليق