الحمد لله.
أما الحديث الأول : فعن فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ ، قالت : " إِنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، فَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُكْنَى ، وَلَا نَفَقَةً ، قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي ) ، فَآذَنْتُهُ ، فَخَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ ، وَأَبُو جَهْم ٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْد ٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ تَرِبٌ ، لَا مَالَ لَهُ ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ ، وَلَكِنْ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ) ، فَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا: أُسَامَةُ ! أُسَامَةُ ! ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( طَاعَةُ اللهِ ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ خَيْرٌ لَك ، قَالَتْ : فَتَزَوَّجْتُهُ ، فَاغْتَبَطْتُ ) رواه مسلم (1480) .
وأما الحديث الثاني :
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : ( إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ
فَزَوِّجُوهُ ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ ، وَفَسَادٌ
عَرِيضٌ ) رواه الترمذي (1084) .
، ورواه الترمذي أيضا (1085) ، من حديث أَبِي حَاتِمٍ المُزَنِيِّ رضي الله عنه .
وليس بين هذين الحديثين
تعارض ، بحمد الله .
وبيان ذلك :
أن حديث أبي هريرة ضعفه جمع من الأئمة كالإمام البخاري وابن القطان والذهبي .
وبناء على هذا ؛ فلا تعارض بين حديث صحيح وآخر ضعيف ، لأن الحديث الضعيف قد ترجح أن
الرسول صلى الله لم يقله ، فلا يستفاد منه حكم ، ولا يعارض به حديث آخر ثابت عن
النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن
حديث أبي هريرة وإن كان سنده ضعيفا ، إلا أنه يتقوى بحديث أبي حاتم المزنى ، ويرتقى
إلى درجة "الحسن" ، ومن هؤلاء : الترمذي ، والألباني .
انظر : " إرواء الغليل " (6/266) رقم (1868) .
وعلى هذا القول أيضاً : فلا
تعارض بين الحديثين ، لإمكان التوفيق بينها .
فحديث أبي هريرة يأمر بتزويج صاحب الدين والخلق ، وأن يكون الدين والخلق مقدما على
المال والنسب ... وغير ذلك من الصفات التي يقصدها الناس ويزوجون صاحبها .
وحديث فاطمة بنت قيس ليس فيه
ما ينافي هذا المعنى ، لأنه ليس فيه رفض معاوية من أجل فقره ، ثم تذهب فاطمة وتتزوج
رجلا غنيا ليس ذا دين وخلق ، مثلا !!
بل حديث فاطمة فيه المفاضلة والاختيار بين ثلاثة رجال ، كلهم ذوو دين وخلق ، فقدم
الرسول صلى الله عليه وسلم أسامة لأنه ليس عنده ما يعاب به ، بخلاف معاوية وأبي جهم
رضي الله عنهم .
فالمفاضلة كانت بين رجل ذي دين وخلق ولكنه فقير ، وآخر ذي دين وخلق أيضا ، وهو غير
فقير ، فلا شك أن الثاني هو المقدم ، وهو ما أشار به الرسول صلى الله عليه وسلم .
وجواب آخر :
أن المرأة لو تقدم لها رجل ذو دين وخلق ، ولكنه كان فقيرا ، فلا يجب على المرأة
قبوله ، بل لها أن ترده من أجل فقره ، رجاء أن يتقدم لها رجل ذو دين وخلق وليس
فقيرا ، وذلك لأن المرأة تتضرر بفقر زوجها ، ولم يلزمها الشرع بتحمل هذا الضرر أو
المشقة .
قال علي القاري في "مرقاة المفاتيح" (5/2176) :
"قوله صلى الله عليه وسلم : (لَا مَالَ لَهُ) : يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي
غَايَةٍ مِنَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَة ِ، حَتَّى قَالَ فِي حَقِّهِ: (إِنَّهُ
صُعْلُوكٌ) ...
وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ ، عَلَى مَا وَرَدَ فِي
الْحَدِيثِ .
وَفِيهِ تَصْرِيحٌ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى جَوَازِ ذِكْرِ
عَيْبٍ فِي الزَّوْجِ ، لِتَحْتَرِزَ الزَّوْجَةُ مِنْه ُ، لِئَلَّا تَقَعَ
الزَّوْجَةُ فِي الْمَشَقَّةِ" انتهى .
وفي "المنتقى شرح الموطأ" (4/106) :
"وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ
فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ ) رَاعَى فِي ذَلِكَ حَاجَةَ النِّسَاءِ إلَى الْمَالِ
يَكُونُ عِنْدَ الزَّوْجِ ، لِمَا لَهُنَّ عَلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ ،
وَالْكِسْوَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ " انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (28/230) :
"فَبَيَّنَ لَهَا أَنَّ هَذَا فَقِيرٌ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ حَقِّك" انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمن في "لقاءات الباب المفتوح" (14/231) الشاملة .
"وهذا دليل على أن للمرأة أن ترد الخاطب إذا كان فقيراً، ولكن الأفضل إذا كان ذا
خلق ودين أن تتزوج به " انتهى .
ويشبه هذا ما رواه النسائي
(3221) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : " خَطَبَ
أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَاطِمَةَ ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّهَا صَغِيرَةٌ ) ، فَخَطَبَهَا
عَلِيٌّ ، فَزَوَّجَهَا مِنْهُ ) رواه النسائي (3221) ، وصححه الألباني إسناده كما
في " صحيح سنن النسائي " .
قال الشيخ محمد بن آدم الإثيوبيى :
" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم : ( إِنَّهَا صَغِيرَةٌ ) : أي
وكلّ منكما لا يوافقها في السنّ ، والمقصود من النكاح دوام الألفة ، وبقاء العشرة ،
فإذا كان أحد الزوجين في غير سنّ الآخر ، لم يحصل الغرض كاملاً ، فربّما أدّى إلى
الفُرقة المنافية لمقصود النكاح " .
انتهى من " ذخيرة العقبى " (27 / 57) .
فالثلاثة (أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم) كلهم ذو دين وخلق في أعلى الدرجات ، وكانت المفاضلة ترجح عليا لسب آخر ، غير الدين والخلق ، وهو السن ، لأنه أقرب منها سنا.
تعليق