الحمد لله.
يأجوج ومأجوج حقيقة قرآنية، ليست محض خيال، ولا فلسفة مجملة يفهمها كلٌّ من منظوره، بل هي أخبار محددة، وصفات معينة .
قال تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا. قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا. قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا. آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا. فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) [الكهف: 93 - 97]
وكل مسلم يقرأ هذه الآيات يفهم مضامينها بكل ظهور ووضوح، أن هؤلاء الأقوام "يأجوج ومأجوج" حُبسوا وراء السد الذي بناه ذو القرنين، ليحول بينهم وبين إفسادهم في الأرض. ثم عقب الله عز وجل على هذا الخبر اليقين بقوله سبحانه: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف: 98]
وقد بين القرآن الكريم في موضع آخر المقصود بـ "وعد الله" هنا، وسماه "الوعد الحق"، وذلك في قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ) [الأنبياء: 96، 97]
ففتح يأجوج ومأجوج يعني اقتراب الوعد الحق، وهو وعد القيامة الذي تشخص فيه أبصار الكفار.
يقول الإمام الطبري رحمه الله:
"حتى إذا فُتحت يأجوج ومأجوج، اقترب الوعد الحقّ، وذلك وعد الله الذي وعد عباده أنه يبعثهم من قبورهم للجزاء والثواب والعقاب، وهو لا شك حق كما قال جلّ ثناؤه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو، يعني ابن قيس، قال: ثنا حذيفة:
لو أن رجلا افتلى فَلوّا بعد خروج يأجوج ومأجوج ، لم يركبه حتى تقوم القيامة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) قال: اقترب يوم القيامة منهم، والواو في قوله (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) مقحمة، ومعنى الكلام: حتى إذا فُتحت يأجوج ومأجوج: اقترب الوعد الحقّ" انتهى من "جامع البيان" (18/533).
كما وضحت السنة النبوية أن "وعد الله" الذي هو ميقات دك السد، أو الجبلين، سيكون آخر الزمان، مع أشراط الساعة الكبرى، بل وبعد نزول المسيح عيسى بن مريم عليه السلام.
عَنْ أَبِي سَرِيحَةَ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ، قَالَ:
(كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غُرْفَةٍ وَنَحْنُ أَسْفَلَ مِنْهُ، فَاطَّلَعَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: مَا تَذْكُرُونَ؟
قُلْنَا: السَّاعَةَ. قَالَ: إِنَّ السَّاعَةَ لَا تَكُونُ حَتَّى تَكُونَ عَشْرُ آيَاتٍ:
خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَالدُّخَانُ، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ، وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قُعْرَةِ عَدَنٍ تَرْحَلُ النَّاسَ)
رواه مسلم في "صحيحه" (2901).
وروى مسلم في "صحيحه" (رقم/2937) أيضا حديثه الطويل عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قَالَ:
(ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ، فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ [فذكر من وصف الدجال وخبره ثم قال]
فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ، فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ، فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللهُ مِنْهُ، فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللهُ إِلَى عِيسَى: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ.
وَيَبْعَثُ اللهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ، وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، فَيُرْسِلُ اللهُ عَلَيْهِمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللهِ، فَيُرْسِلُ اللهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ مَطَرًا لَا يُكِنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ، فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ .... إلى آخر الحديث).
وهذه الأخبار والآثار والظواهر القرآنية تدل بوضوح على بطلان القول بأن "يأجوج ومأجوج" قد خرجوا بالفعل سابقا، أو أنهم يتجسدون حاليا بالفساد الذي تنشره الحضارة الغربية في بلادنا وبلاد العالم.
يقول ابن حزم رحمه الله:
"حتى لو خفي مكان يأجوج ومأجوج والسد فلم يعرف في شيء من المعمور مكانه ، لما ضر ذلك خبرنا شيئا...
واعلموا أن كل ما كان في عُنْصُر الإمكان، فأدخله مُدخِل في عنصر الامتناع بلا برهان، فهو كاذب مبطل جاهل أو متجاهل، لا سيما إذا أخبر به من قد قام البرهان على صدق خبره.
وإنما الشأن في المحال الممتنع التي تكذبه الحواس والعيان، أو بديهة العقل، فمن جاء بهذا فإنما جاء ببرهان قاطع على أنه كذاب مفتر. ونعوذ بالله من البلاء" انتهى من "الفصل في الملل والأهواء والنحل" (1/96)
ويقول ابن رشد ـ الجد ـ :
"وأما الأشراط الكبار التي بين يدي الساعة، فمنهما الدابة، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها" انتهى من "البيان والتحصيل" (17/193)
ويقول ابن العربي المالكي رحمه الله:
"وذلك موافق للحديث قبله؛ لأن نزول عيسى عليه السلام من أشراط الساعة، وسيقاتل الدجال، ويأجوج ومأجوج، وهو آخر الأمر" انتهى من "أحكام القرآن" (1/146)
وهكذا توارد العلماء على ذكر يأجوج ومأجوج ضمن أشراط الساعة المتأخرة، كما فعل الغزنوي الحنفي في "أصول الدين" (ص204)، وابن قدامة في "لمعة الاعتقاد" (ص30)، والقرطبي في "التذكرة" (ص1288)، ويوسف بن يحيى الشافعي في "عقد الدرر" (ص316)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"(يوم يأتي تأويله) إلى آخر الآية. وإنما ذلك مجيء ما أخبر القرآن بوقوعه من القيامة وأشراطها: كالدابة، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، ومجيء ربك والملك صفا صفا، وما في الآخرة من الصحف والموازين، والجنة والنار، وأنواع النعيم والعذاب، وغير ذلك" انتهى من "مجموع الفتاوى" (13/278).
ويقول ابن أبي العز الحنفي رحمه الله:
"ويخرج يأجوج ومأجوج في أيامه [يعني : المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام] بعد قتله الدجال، فيهلكهم الله أجمعين في ليلة واحدة ببركة دعائه عليهم" انتهى من "شرح الطحاوية" (ص514)
ويقول العلامة السفاريني رحمه الله:
" خروجهم من وراء السد على الناس، حق ثابت، لوروده في الذكر، وثبوته عن سيد البشر، ولم يُحِله عقل، فوجب اعتقاده" انتهى من "لوامع الأنوار البهية" (2/115).
وكل ما سبق يدل على خطأ قول من قال إن خروج يأجوج ومأجوج قد مضى وانقضى؛ إذ كيف يكون كذلك ولم تقع أيٌّ من العلامات الكبرى، ولم ينزل المسيح، ولم يخرج المهدي، ولم يفسدوا في الأرض إفسادهم المحدد الموصوف في الأحاديث الشريفة الصحيحة!
وإذا كان يأجوج ومأجوج أقواما معينين محددين، بل وكانوا محصورين وراء ردم خاص، فلماذا يعاد تفسيرهم وكأنهم "ظاهرة"، أو "حضارة مطلقة"، وليسوا شعبا محددا، ولا فئة معينة!
هذا كله خروج عن ظاهر النص لغير معنى، بل ويؤدي إلى فساد المعنى ، فسادا بينا ، لا يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه ، إلا يترك النص الشرعي جملة وتفصيلا ، لأجل ذلك البهتان والهذيان !!
وأما الاحتجاج بعدم اكتشاف مكان الردم الذي بناه ذو القرنين لغاية اليوم، فليس دليلا قويما لتأويل جميع هذه الظواهر الواردة في الكتاب والسنة؛ فالإنسان مهما ارتفع بعلمه يظل ناقصا وقاصرا بقصوره البشري، ونحن نشهد اليوم هذا القصور حيث تستمر الاكتشافات الأرضية الجديدة، ويتعرف العلماء على ما لم يشهدوه من قبل، بل ويفقدون الطائرات والسفن في البحار والمحيطات ولا يعثرون لها على أثر، رغم بذلهم الجهود المضنية في هذا السبيل، الأمر الذي يؤكد لك العجز البشري مهما بلغ من العلم والفهم.
يقول العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله:
"إن دعوى معرفة جميع بقاع الأرض باطلةٌ؛ فإن بقعة كل من القُطْبَيْنِ لا سِيَّمَا القطب الجنوبي لا تزال مجهولةً.
وقد استدل بعض العلماء على أن السدّ بني في جهة أحد القطبين بذكر بلوغ ذي القرنين إلى موضعه بعد بلوغ مغرب الشمس مطلعها، وليس ذلك إلا جهة الشمال ، أو جهة الجنوب.
ولا يعترض على هذا القول بصعوبة الوسائل الموصلة إلى أحد القطبين؛ فإن حالة مدنِيّة ذلك العصر ظن وحالة الأرض فيها غير معروفة لنا الآن ، فنبني عليها اعتراضًا كهذا.
فما يدرينا أن الاستطراقَ إلى أحد القطبين، أو كليهما، كان في زمن ذي القرنين سهلاً!
فكم من أرضٍ يابسةٍ فاضت عليها البحار فغمرتها بطول الزمان, وكم من أرض انحسر عنها الماء، فصارت أرضًا عامرة متصلةً بغيرها أو منفردةً (جزيرةً). وكم من مدينة طُمِسَتْ حتى لا يُعْلَمَ عنها شيءٌ.
ومِن المعلوم الآن من شئون المدنيات القديمة بالمشاهدة أو الاستدلال، ما يجهل بعض أسبابه كالأنوار والنقوش والألوان وجر الأثقال عند المصريين القدماء" انتهى من "مجلة المنار" (11/274).
ويقول العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله:
"اعلم أولا أنا قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أنه إن كان لبعض الآيات بيان من القرآن لا يفي بإيضاح المقصود وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم فإنا نتمم بيانه بذكر السنة المبينة له، وقد قدمنا أمثلة متعددة لذلك .
فإذا علمت ذلك فاعلم أن هاتين الآيتين لهما بيان من كتاب، أوضحته السنة، فصار بضميمة السنة إلى القرآن بيانا وافيا بالمقصود، والله جل وعلا قال في كتابه لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) النحل/44 .
فإذا علمت ذلك فاعلم أن هذه الآية الكريمة، وآية الأنبياء قد دلتا في الجملة على أن السد الذي بناه ذو القرنين دون يأجوج ومأجوج، إنما يجعله الله دكا عند مجيء الوقت الموعود بذلك فيه، وقد دلتا على أنه بقرب يوم القيامة ; لأنه قال هنا: (فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا * وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور) الآية الكهف/98 - 99] ، وأظهر الأقوال في الجملة المقدرة التي عوض عنها تنوين يومئذ من قوله: (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض) : أنه يوم إذ جاء وعد ربي بخروجهم وانتشارهم في الأرض، ولا ينبغي العدول عن هذا القول لموافقته لظاهر سياق القرآن العظيم ...
وآية الأنبياء المشار إليها هي قوله تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون * واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا) الآية الأنبياء/96 - 97; لأن قوله: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج، وإتباعه لذلك بقوله: (واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا) : يدل في الجملة على ما ذكرنا في تفسير آية الكهف التي نحن بصددها .
وذلك يدل على بطلان قول من قال: إنهم روسية، وأن السد فتح منذ زمان طويل!
فإذا قيل: إنما تدل الآيات المذكورة في الكهف والأنبياء على مطلق اقتراب يوم القيامة من دك السد، واقترابه من يوم القيامة لا ينافي كونه قد وقع بالفعل، كما قال تعالى: (اقترب للناس حسابهم) الآية، وقال: (اقتربت الساعة وانشق القمر)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل للعرب، من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها) الحديث.
وقد قدمنا في سورة المائدة، فقد دل القرآن والسنة الصحيحة على أن اقتراب ما ذكر لا يستلزم اقترانه به، بل يصح اقترابه مع مهلة، وإذا فلا ينافي دك السد الماضي المزعوم، الاقتراب من يوم القيامة، فلا يكون في الآيات المذكورة دليل على أنه لم يدك السد إلى الآن ؟
فالجواب:
هو ما قدمنا، أن هذا البيان بهذه الآيات ليس وافيا بتمام الإيضاح إلا بضميمة السنة له، ولذلك ذكرنا أننا نتمم مثله من السنة; لأنها مبينة للقرآن [ثم ساق الأحاديث السابقة، ثم قال]:
وهذا الحديث الصحيح قد رأيت فيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم: بأن الله يوحي إلى عيسى ابن مريم خروج يأجوج ومأجوج بعد قتله الدجال، فمن يدعي أنهم روسية، وأن السد قد اندك منذ زمان، فهو مخالف لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة لا وجه لها .
ولا شك أن كل خبر ناقض خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فهو باطل; لأن نقيض الخبر الصادق كاذب ضرورة كما هو معلوم، ولم يثبت في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يعارض هذا الحديث الذي رأيت صحة سنده، ووضوح دلالته على المقصود.
والعمدة في الحقيقة لمن ادعى أن يأجوج ومأجوج هم روسية، ومن ادعى من الملحدين أنهم لا وجود لهم أصلا : هي حجة عقلية في زعم صاحبها، وهي بحسب المقرر في الجدل قياس استثنائي، مركب من شرطية متصلة لزومية في زعم المستدل به ، يستثنى فيه نقيض التالي، فينتج نقيض المقدم، وصورة نظمه أن يقول:
لو كان يأجوج ومأجوج وراء السد إلى الآن، لاطلع عليهم الناس، لتطور طرق المواصلات، لكنهم لم يطلع عليهم أحد.
ينتج: فهم ليسوا وراء السد إلى الآن; لأن استثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم كما هو معلوم.
وبعبارة أوضح لغير المنطقي; لأن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم، هذا هو عمدة حجة المنكرين وجودهم إلى الآن وراء السد .
ومن المعلوم أن القياس الاستثنائي المعروف بالشرطي، إذا كان مركبا من شرطية متصلة واستثنائية، فإنه يتوجه عليه القدح من ثلاث وجهات:
الأولى: أن يقدح فيه من جهة شرطيته، لكون الربط بين المقدم والتالي ليس صحيحا.
الثانية: أن يقدح فيه من جهة استثنائيته.
الثالثة: أن يقدح فيه من جهتهما معا.
وهذا القياس المزعوم يقدح فيه من جهة شرطيته فيقول المعترض: الربط فيه بين المقدم والتالي غير صحيح، فقولكم: لو كانوا موجودين وراء السد إلى الآن، لاطلع عليهم الناس: غير صحيح، لإمكان أن يكونوا موجودين، والله يخفي مكانهم على عامة الناس، حتى يأتي الوقت المحدد لإخراجهم على الناس.
ومما يؤيد إمكان هذا ما ذكره الله تعالى في سورة المائدة من أنه جعل بني إسرائيل يتيهون في الأرض أربعين سنة، وهم في فراسخ قليلة من الأرض، يمشون ليلهم ونهارهم ولم يطلع عليهم الناس حتى انتهى أمد التيه، لأنهم لو اجتمعوا بالناس، لبينوا لهم الطريق .
وعلى كل حال، فربك فعال لما يريد، وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه صادقة .
وما يوجد بين أهل الكتاب مما يخالف ما ذكرنا، ونحوه من القصص الواردة في القرآن والسنة الصحيحة، زاعمين أنه منزل في التوراة أو غيره من الكتب السماوية : باطل يقينا لا يعول عليه; لأن الله جل وعلا صرح في هذا القرآن العظيم - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد - بأنهم بدلوا وحرفوا وغيروا في كتبهم. بخلاف هذا القرآن العظيم، فقد تولى الله جل وعلا حفظه بنفسه، ولم يكله إلى أحد حتى يغير فيه أو يبدل أو يحرف" انتهى باختصار من " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/197-204) .
ويقول الشيخ حمود التويجري رحمه الله:
"ومن العصريين من يزعم أن يأجوج ومأجوج هم جميع دول الكفر [فذكر الأدلة السابقة ثم قال]: وفي هذه الأحاديث دليل على أن خروج يأجوج ومأجوج، إنما يكون بعد نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وذلك عند اقتراب الساعة كما هو منصوص عليه في قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) أي دنا قيام الساعة .
وفي هاتين الآيتين، مع الأحاديث التي تقدم ذكرها: أبلغ رد على من زعم أن يأجوج ومأجوج هم دول الكفر في آسيا وأوربا وأمريكا وغيرها من بلاد المشركين؛ لأن هؤلاء الكفرة لم يزالوا مختلطين بالناس، ولم يكن بينهم وبين الناس سد من حديد يحول بينهم وبين الخروج على الناس...
ومن المعلوم عند كل عاقل أن دول آسيا وأوربا وأمريكا لم تزل في أماكنها منذ زمان طويل، وأنه ليس بينهم وبين غيرهم سد من حديد يمنعهم من الخروج والاختلاط بغيرهم من الناس.
فصفة يأجوج ومأجوج لا تنطبق على الدول المعروفة الآن .
وقد تقدم في عدة أحاديث صحيحة أن يأجوج ومأجوج إنما يخرجون بعد نزول عيسى -عليه الصلاة والسلام- وقتل الدجال، وأنهم لا يمكثون بعد خروجهم على الناس إلا مدة يسيرة، ثم يدعو عليهم نبي الله عيسى فيهلكهم الله جميعًا كموت نفس واحدة، فهم بلا شك أمة عظيمة، قد حيل بينهم وبين الخروج على الناس بالسد الذي بناه ذو القرنين، وهذا السد لا يندك إلا إذا دنا قيام الساعة، كما أخبر الله بذلك في كتابه العزيز.
وأما كون السائحين في الأرض لم يروا يأجوج ومأجوج ولا سد ذي القرنين، فلا يلزم منه عدم السد ويأجوج ومأجوج، فقد يصرف الله السائحين عن رؤيتهم ورؤية السد، وقد يجعل الله فوق السد ثلوجًا متراكمة بحيث لا تمكن رؤية السد معها، أو يجعل الله غير ذلك من الموانع التي تمنع من رؤية يأجوج ومأجوج ورؤية السد.
والواجب على المسلم الإيمان بما أخبر الله به في كتابه عن السد ويأجوج ومأجوج، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولا يجوز للمسلم أن يتكلف ما لا علم له به، ولا يقول بشيء من أقوال المتكلفين المتخرصين، بل ينبذها وراء ظهره ولا يعبأ بشيء منها.
والمقصود ههنا بيان أن إنكار السد ، ويأجوج ومأجوج بالكلية : كفر بلا شك، لما في ذلك من تكذيب ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم عن السد ويأجوج ومأجوج .
وأما الاعتراف بوجود السد في قديم الزمان، والقول بزواله بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وخروج يأجوج ومأجوج واختلاطهم بالناس، فهذا أخف من القول الأول لما فيه من التأويل، ولا ينبغي أن يطلق الكفر على قائله، ولكن لا يجوز اعتقاده؛ لأنه قول باطل مخالف لما أخبر الله به في كتابه ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عن السد، أنه لا يندك إلا إذا دنا قيام الساعة، وأن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون بعد نزول عيسى وقتل الدجال.
[ثم] إن أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم : قد كانوا موجودين في جميع الجهات شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالا، وعن أيمان المسلمين وعن شمائلهم ومن خلفهم، من قبل أن يوجد السد وبعد أن وجد، ولم يزالوا كذلك على مر الأزمان، ومع هذا فلم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنهم هم يأجوج ومأجوج، ولم يؤثر ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين وتابعيهم ولا من بعدهم من العلماء، حتى جاء المتكلفون في آخر القرن الرابع عشر من الهجرة، فزعموا أن يأجوج ومأجوج ما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم !!
فهل يقول مسلم عاقل إن المتكلفين أعلم من النبي صلى الله عليه وسلم بيأجوج ومأجوج ؟!!
أو يقول من له أدنى عقل ودين : إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن بعدهم إلى آخر القرن الرابع عشر من الهجرة، كانوا في غمرة من الجهل ساهون، حتى طلع عليهم نور الهداية والدلالة من أحد المتكلفين القائلين في حقيقة يأجوج ومأجوج بغير علم؟ كلا، لا يقول هذا مسلم عاقل.
وخروج يأجوج ومأجوج إنما يكون بعد نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وقتله الدجال، كما جاء ذلك صريحًا في الأحاديث التي تقدم ذكرها قريبًا عن النواس بن سمعان، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، فلتراجع، ففيها أبلغ رد على من زعم أن يأجوج ومأجوج ما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم.
[كما] أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في حديث النواس بن سمعان الذي تقدم ذكره قريبًا أن يأجوج ومأجوج إذا بعثوا، يمر أولهم على بحيرة طبرية، فيشربون ما فيها، وجاء في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما نحو ذلك، وجاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن يأجوج ومأجوج إذا خرجوا يطؤون البلاد فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه .
وفي هذا أبلغ رد على من زعم أن يأجوج ومأجوج ما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم؛ لأن الذين قد ملؤوا الأرض شرقًا وغربًا من أمم الكفار ، لم يقع منهم شيء مما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فلم يهلكوا ما أتوا عليه، ولم ينقصوا ما عندهم من المياه، فضلا عن أن يشربوا بحيرة طبرية وينشفوها، مع أن بعضهم كانوا مجاورين لها أزمانًا طويلة" انتهى من "الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر" (ص: 311-324)
وفي موقعنا مجموعة من الإجابات المهمة المتعلقة بالموضوع، يمكن مراجعتها تحت الأرقام الآتية: (171)، (3437)، (131831)، (161083)، (202532)، (213797) .
والله أعلم .
تعليق