الحمد لله.
روى الحاكم في "المستدرك" (8661) والبيهقي في "الشعب" (4834) وأبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص71) والدارمي في "سننه" (493) والطبراني في "مسند الشاميين" (482) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: " مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْقَوْلُ وَيُخْزَنَ الْفِعْلُ، وَمِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُرْفَعَ الْأَشْرَارُ، وَتُوضَعَ الْأَخْيَارُ، وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُقْرَأَ الْمَثْنَاةُ عَلَى رُءُوسِ الْمَلَأِ لَا يُغَيَّرُ !!
قِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَيْفَ بِمَا جَاءَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قَالَ: " مَا جَاءَكُمْ عَنْ مَنْ تَأْمَنُونَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَدِينِهِ فَخُذُوا بِهِ، وَعَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ عَنْهُ تُسْأَلُونَ، وَبِهِ تُجْزَوْنَ، وَكَفَى بِهِ وَاعِظًا لِمَنْ عَقِلَ " .
وَقِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَمَا الْمَثْنَاةُ؟
قَالَ: " مَا اسْتُكْتِبَ مِنْ غَيْرِ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ".
ورواه الحاكم (8660) مرفوعا أيضا ،
وصححه مرفوعا وموقوفا ، ووافقه الذهبي .
قال الشيخ الألباني رحمه الله :
" هو من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، يرويه عنه عمرو
ابن قيس الكندي، رواه عنه جمع ، رفعه بعضهم وأوقفه بعضهم، وهو في حكم المرفوع
لأنه لا يقال بمجرد الرأي " انتهى من "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (6/ 774)
والأظهر ، والله أعلم ، وقف هذا الحديث
على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، وليس له حكم الرفع ، لما يأتي في كلام أبي
عبيد .
وينظر أيضا : " الروض البسام" لجاسم الفهيد (4/108-109) ،
والمقصود بالمثناة : كتب كتبها أهل الكتاب، فيها الكثير من الباطل، شغلوا الناس بها
عن كتاب الله، فإذا انشغل الناس بها، وتركوا الكتاب والسنة ، فتلك علامة من علامات
الساعة .
قال ابن حزم رحمه الله في "المحلى" (8/ 341):
" رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ أَبِي هِلَالٍ: أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ حَدَّثَهُ أَنَّ يَهُودِيَّةً
جَاءَتْ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَتْ: إنَّ ابْنِي هَلَكَ، فَزَعَمَتْ
الْيَهُودُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِي فِي مِيرَاثِهِ؟ فَدَعَاهُمْ عُمَرُ فَقَالَ:
"أَلَا تُعْطُونَ هَذِهِ حَقَّهَا؟" فَقَالُوا: لَا نَجِدُ لَهَا حَقًّا فِي
كِتَابِنَا؟ فَقَالَ: "أَفِي التَّوْرَاةِ؟" قَالُوا: بَلَى، فِي الْمُثَنَّاةِ
قَالَ: "وَمَا الْمُثَنَّاةُ؟" قَالُوا: كِتَابٌ كَتَبَهُ أَقْوَامٌ عُلَمَاءُ
حُكَمَاءُ؟ فَسَبَّهُمْ عُمَرُ وَقَالَ: "اذْهَبُوا فَأَعْطُوهَا حَقَّهَا"
وقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ رحمه الله :
" سَأَلت رجلا من أهل الْعلم بالكتب الأُوَل ، قد عرفهَا وَقرأَهَا ، عَن المَثْناة
؟
فَقَالَ: إِن الْأَحْبَار والرهبان من بني إِسْرَائِيل بعد مُوسَى وضعُوا كتابا
فيمَا بَينهم ، على مَا أَرَادوا من غير كتاب الله تبَارك وَتَعَالَى، فسَمَّوه
الْمُثَنَّاة، كَأَنَّهُ يَعْنِي أَنهم أحلّوا فِيهِ مَا شاؤوا ، وحرموا فِيهِ مَا
شاؤوا، على خلاف كتاب الله تبَارك وَتَعَالَى، فَبِهَذَا عرفت تَأْوِيل حَدِيث
عَبْد اللَّه بْن عَمْرو : أَنه إِنَّمَا كره الْأَخْذ عَن أهل الْكتاب لذَلِك
الْمَعْنى، وَقد كَانَت عِنْده كتب ، وَقعت إِلَيْهِ يَوْم اليرموك، فأظنّه قَالَ
هَذَا لمعرفته بِمَا فِيهَا "
"غريب الحديث" (4/ 282)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَعِنْدَهُمْ - يعني أهل الكتاب - النُّبُوَّاتُ الَّتِي هِيَ مِئَتَانِ
وَعِشْرُونَ ، وكِتَابُ الْمَثْنَوِيِّ الَّذِي مَعْنَاهُ "الْمُثَنَّاةُ" ، وَهِيَ
الَّتِي جَعَلَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو فِينَا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ،
فَقَالَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْرَأَ فِيهِمْ بِالْمُثَنَّاةِ لَيْسَ
أَحَدٌ يُغَيِّرُهَا . قِيلَ: وَمَا الْمُثَنَّاةُ؟ قَالَ: مَا اُسْتُكْتِبَ مِنْ
غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ".
"مجموع الفتاوى" (4/ 112)
وقال ابن القيم رحمه الله :
" يقول العبرانيون للكتب "المشنا" ، وَمَعْنَاهَا بلغَة الْعَرَب "الْمُثَنَّاة" ،
الَّتِي تثنى ، أَي تقْرَأ مرّة بعد مرّة " انتهى ، من جلاء الأفهام (ص 198)
وقال ابن الأثير رحمه الله :
" قِيلَ إنَّ المَثْنَاة هِيَ أنَّ أَحْبَارَ بَني إِسْرَائِيلَ بَعْد مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ وضعوا كتابا فِيمَا بيْنهم عَلَى مَا أرَادُوا مِنْ غَيْرِ
كتاب الله " انتهى من النهاية (1/ 225)
فهذا هو المقصود بالمثناة ، ويدل عليه لفظ الدارمي :
" مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، أَنْ يَظْهَرَ الْقَوْلُ وَيُخْزَنَ الْعَمَلُ، أَلَا
إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، أَنْ تُتْلَى الْمَثْنَاةُ فَلَا يُوجَدُ مَنْ
يُغَيِّرُهَا ".
أما القول بأن المقصود بها كتب السنة والفقه والعلم الشرعي : فقول باطل ، لا أصل له
، وهو مدخل لأهل الضلال ، لهدم دين الإسلام ، وتشكيك الناس فيما أتاهم من عند رب
العالمين .
ويدل على بطلانه الحديث نفسه ، حيث جاء فيه كما تقدم : أنه قيل لعبد الله بن عمرو :
كَيْفَ بِمَا جَاءَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فقَالَ: " مَا جَاءَكُمْ عَنْ مَنْ تَأْمَنُونَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَدِينِهِ
فَخُذُوا بِهِ "
فأمر بالأخذ بالأحاديث الثابتة الصحيحة التي يرويها الثقات الأمناء .
وقد كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، من أكثر الصحابة رواية للحديث .
روى الترمذي (6228) عن أبي هريرة قال: " لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي ، إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو؛
فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ ، وَكُنْتُ لَا أَكْتُبُ ".
وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله :
" لم يُرد عَبْد اللَّه بْن عَمْرو النَّهْي عَن حَدِيث رَسُول اللَّه صلي اللَّه
عَلَيْهِ وَسلم وسنّته، وَكَيف ينْهَى عَن ذَلِك وَهُوَ من أَكثر الصَّحَابَة
حَدِيثا عَنْهُ؟ " انتهى من "غريب الحديث" (4/ 282)
وإذا أراد المنكر للسنة قياس كتب السنة
والفقه ، على مثناة اليهود ، فهو قياس باطل ، لأن "مثناة" اليهود وضعوها مخالفة
لكتابهم ، وصاروا يحكمون بها بدلا من الحكم بكتابهم ، أما كتب السنة والفقه فقد
كتبها العلماء وجمعوا فيها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما استنبطوه منها
من الأحكام .
فكيف يقاس ما كان موافقا للكتاب والسنة ، مبنيا عليهما ، على ما خالف كتاب الله ؟!
والله أعلم .
تعليق