الحمد لله.
روى البخاري (1285) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَى القَبْرِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ، قَالَ: فَقَالَ: (هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ؟) ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا، قَالَ: (فَانْزِلْ) قَالَ: فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا ".
ورواه أحمد (13398) ولفظه : ( لَا يَدْخُلِ الْقَبْرَ رَجُلٌ قَارَفَ أَهْلَهُ ) فَلَمْ يَدْخُلْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْقَبْرَ ".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" (3/ 158) :
" (لَمْ يُقَارِفْ) عَنْ فُلَيْحٍ قال: أُرَاهُ يَعْنِي الذَّنْبَ .
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لم يُجَامع تِلْكَ اللَّيْلَة، وَبِه جزم ابن حَزْمٍ ...
وَيُقَوِّيهِ : أَنَّ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ الْمَذْكُورَةِ بِلَفْظِ: ( لَا يَدْخُلِ الْقَبْرَ أَحَدٌ قَارَفَ أَهْلَهُ الْبَارِحَةَ ) فَتَنَحَّى عُثْمَانُ " انتهى .
وينظر : "كشف المشكل" لابن الجوزي (3/295) .
وقال في " النهاية " (4/ 45):
" .. وقارف امْرأته : إذا جامَعَها " انتهى .
والعلة في ذلك : أن نزول الإنسان القبر لدفن الميت لا يناسبه أن يكون حديث عهد بالجماع ، فإنه لا يأمن أن يتذكر شيئا من ذلك ، وهو في القبر ، والحال حال خشوع وتذكر للموت وما بعده ، فلا يناسبه التفكر في شيء من متاع الدنيا . فكيف بشيء من أقوى ملاذها وشهواتها ؟!
قال ابن الجوزي رحمه الله :
" يُقَال: قارف الرجل امْرَأَته: إِذا جَامعهَا. والقريب الْعَهْد بالشَّيْء يتذكره، فَلهَذَا طلب من لم يقرب عَهده بذلك " انتهى ، من "كشف المشكل" (3/296) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" وَفِي هَذَا الْحَدِيث : ... إِيثَار الْبَعِيد الْعَهْد عَنْ الْمَلَاذ فِي مُوَارَاة الْمَيِّت - وَلَوْ كَانَ اِمْرَأَة - عَلَى الْأَب وَالزَّوْج ...
وَعَلَّلَ ذَلِكَ بَعْضهمْ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَأْمَن مِنْ أَنْ يُذَكِّرهُ الشَّيْطَان بِمَا كَانَ مِنْهُ تِلْكَ اللَّيْلَة " .
انتهى من " فتح الباري " (3/ 159) .
وقيل :
" خَشِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ نَزَلَ أَنْ يَتَذَكَّرَ شَيْئًا، فَيَذْهَلَ مِنَ الْإِتْيَانِ بِكَمَالِ الْمَنْدُوبَاتِ الَّتِي تُفْعَلُ بِالْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ " انتهى .
انظر : "مرقاة المفاتيح" (3/ 1227) .
ثالثا :
فإن قيل : عدم دخول عثمان القبر يدل على أنه جامع تلك الليلة ، فكيف يفعل ذلك وزوجته في الموت ؟
قيل : ليس في الخبر دليل على أن هذا قد وقع من عثمان رضي الله عنه ، بعد ما ماتت زوجته ، بل ولا حين علمه باحتضارها .
قال الحافظ ابن حجر:
" يُجَابُ عَنْهُ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَرَضُ الْمَرْأَةِ طَالَ، وَاحْتَاجَ عُثْمَانُ إِلَى الْوِقَاعِ، وَلَمْ يَظُنَّ عُثْمَانُ أَنَّهَا تَمُوتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ وَاقَعَ بَعْدَ مَوْتِهَا، بَلْ وَلَا حِينَ احْتِضَارِهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى " انتهى من " فتح الباري " (3/ 159) .
رابعا :
لا علاقة لموت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بموت أم كلثوم بنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وغاية ما يذكر في هذا الشأن ما ذكره الواقدي في "المغازي" (1/
332) فقال:
" كَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قد انهزم يومئذ - يعني
يوم أحد - فمضى على وَجْهِهِ فَنَامَ قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ، فَلَمّا أَصْبَحَ
دخل المدينة ، فأتى منزل عثمان بن عفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَضَرَبَ بَابَهُ،
فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ أُمّ كُلْثُومٍ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لَيْسَ هُوَ هَاهُنَا، هُوَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. قَالَ:
فَأَرْسِلِي إلَيْهِ، فَإِنّ لَهُ عِنْدِي ثَمَنَ بَعِيرٍ اشْتَرَيْته عَامَ أَوّلٍ
فَجِئْته بِثَمَنِهِ، وَإِلّا ذَهَبْت.
قَالَ: فَأَرْسَلْت إلَى عُثْمَانَ فَجَاءَ، فَلَمّا رَآهُ قَالَ: وَيْحَك،
أَهْلَكْتنِي وَأَهْلَكْت نَفْسَك، مَا جَاءَ بِك؟
قَالَ: يَا ابْنَ عَمّ، لَمْ يَكُنْ لِي أَحَدٌ أَقْرَبَ إلَيّ مِنْك وَلَا أَحَقّ.
فَأَدْخَلَهُ عُثْمَانُ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، ثُمّ خَرَجَ إلَى النّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ أَمَانًا، وَقَدْ قَالَ
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أَنْ يَأْتِيَهُ عُثْمَانُ: ( إنّ مُعَاوِيَةَ
قَدْ أَصْبَحَ بِالْمَدِينَةِ فَاطْلُبُوهُ ) فَطَلَبُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: اُطْلُبُوهُ فِي بَيْتِ عُثْمَانَ بْنِ عفّانَ فَدَخَلُوا بَيْتَ
عُثْمَانَ فَسَأَلُوا أُمّ كُلْثُومٍ، فَأَشَارَتْ إلَيْهِ فَاسْتَخْرَجُوهُ مِنْ
تَحْتِ حِمَارَةٍ لَهُمْ [الحمارة هي حجر عريض ، كما في تاج العروس (11/78) ] ،
فَانْطَلَقُوا بِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُثْمَانُ
جَالِسٌ عِنْدً رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا رَآهُ
عُثْمَانُ قَدْ أُتِيَ بِهِ قَالَ: وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ، مَا جِئْتُك إلّا
أَنْ أَسْأَلَك أَنْ تُؤَمّنَهُ، فَهَبْهُ لِي يَا رَسُولَ اللهِ! فَوَهَبَهُ لَهُ
، وَأَمّنَهُ ، وَأَجّلَهُ ثَلَاثًا، فَإِنْ وُجِدَ بَعْدَهُنّ قُتِلَ.
قَالَ: فَخَرَجَ عُثْمَانُ ، فَاشْتَرَى لَهُ بَعِيرًا وَجَهّزَهُ، ثُمّ قَالَ:
ارْتَحِلْ! فَارْتَحَلَ.
وَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ،
وَخَرَجَ عُثْمَانُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، وَأَقَامَ
مُعَاوِيَةُ حَتّى كَانَ الْيَوْمُ الثّالِثُ، فَجَلَسَ عَلَى رَاحِلَتِهِ ،
وَخَرَجَ ، حَتّى إذَا كَانَ بِصُدُورِ الْعَقِيقِ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنّ مُعَاوِيَةَ قَدْ أَصْبَحَ قَرِيبًا فَاطْلُبُوهُ)
، فَخَرَجَ النّاسُ فِي طلبه فإذا هو قد أخطأ الطريق، فَخَرَجُوا فِي أَثَرِهِ
حَتّى يُدْرِكُوهُ فِي يَوْمِ الرّابِعِ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَعَمّارُ
بْنُ يَاسِرٍ أَسْرَعَا فِي طَلَبِهِ، فَأَدْرَكَاهُ بِالْجَمّاءِ فَضَرَبَهُ زَيْدُ
بْنُ حَارِثَةَ، وَقَالَ عَمّارٌ: إنّ لِي فِيهِ حَقّا! فَرَمَاهُ عَمّارٌ بِسَهْمٍ
، فَقَتَلَاهُ، ثُمّ انْصَرَفَا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرَاهُ.
وَيُقَالُ: أُدْرِكَ بِثَنِيّةِ الشّرِيدِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنْ
الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ حَيْثُ أَخْطَأَ الطّرِيقَ، فَأَدْرَكَاهُ فَلَمْ يَزَالَا
يَرْمِيَانِهِ بِالنّبْلِ ، وَاِتّخَذَاهُ غَرَضًا ، حَتّى مَاتَ " انتهى .
فهذا الذي ذكره الواقدي في
مغازيه ، ولا علاقة له بموت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والواقدي لا يعتد
به ، كذبه الشافعي وأحمد والنسائي وغيرهم ، وقال إسحاق بن راهويه : هو عندي ممن يضع
الحديث .
"تهذيب التهذيب" (9 /326) .
خامسا :
لا غضاضة على عثمان في شيء مما تقدم ، ومن ترك ذكر مآثره وفضائله ، وتشبث في غمزه
بمثل هذا فهو جاهل ضال ، في قلبه دغَل ، فلينظر إلى حاله ، وليبك على نفسه .
والله أعلم .
تعليق