الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

أصابتها الشكوك بسبب متابعتها الشبهات من غير منهجية

248507

تاريخ النشر : 16-12-2016

المشاهدات : 13318

السؤال


أنا فتاة عمري 15 أقارب 16 سنة ، مسلمة بالفطرة ، عشت ، وتدينت ، وعرفت ديني ، وأحببت ربي، وأصابتني غيرة شديدة عليه ، أي على ديني ، ورحت أتجول باليوتيوب لأرى شبهات الكفار والإجابات لها ، لم أتأثر في البداية ، ولكن ـ دون سابق إنذار ـ أصبحت أسأل نفس الأسئلة الإلحادية ، وأتمنى يا شيخنا أن تقرأ رسالتي بتمعن: مَن خلقنا ؟ فأجيب عن أسئلتي: إما الله، أو صدفة ، أو نحن ، ثم بعد أن قرأت أنه محال أن نخلق صدفة ، بدأت أبحث أكثر، فوجدت أن الكون نشأ من دخان مع حرارة ولمعان، انفجر بفعل طاقة ، فقلت في نفسي: إذن الله لم يخلقنا من عدم، بل من مادة ، فتحول ذهني إلى أزلية المادة ، وقانون: المادة لا تفنى ولا تستحدث ، ولكن بحثت إلى أن وجدت أن المادة شكل من أشكال الطاقة ، فقلت في نفسي: لا بد للطاقة من مصدر. فأريد آية تدل على أن الله خلق أول مادة قبل نشأة الكون ، أي خلق المادة التي انطلق وانفجر منها الكون. كما أنني أصلي ، إلا أن قلبي غير مطمئن مائة بالمائة ، وأنا دائما أحاربه وأرغمه على الإيمان بالله ، إلى أن أصل إلى اليقين بإذن الله . وأقول دائما في نفسي: لماذارغم أننا أجبنا على شبهات الملحدين لا يسلمون. هل لأن لديهم أدلة أقوى أم ماذا ؟ أتمنى أن تجيبني على هذا الشكوك التي في بالي ، وأتمنى أن أعلم هل هذا ابتلاء أم خطأ مني رغم أنني تدينت ثم فقدت نصف إيماني أو أكثر؟

الجواب

الحمد لله.


دعينا نبدأ من تساؤلك الأخير الذي نرجو أن يدلك على سبب الإشكال ، وهو أن نحدثك بصراحة عن سبب ما وقع لك في جولتك القصيرة هذه في عالم الأسئلة الكبرى ، أسئلة الوجود، والخلق، والكون، على حداثة سنك ، وضعف خبرتك ، فلك أن تتصوري سؤالا يردك من فتاة في مثل عمرك ، تعبر عن قلقها واضطرابها في قضايا نحوية ابتدائية مثلا، كتعريف المبتدأ والخبر، والفرق بين العوامل ، وهي لم تقطع شوطا في دراسة النحو من كتبه المعتمدة ، ولم تنجز مراحل دراسة هذا العلم على معلم متقن ، ولم تتعب في الحفظ والفهم المدرسي لهذا العلم، وإنما تلتقط معلومات من هنا وهناك ، وتشطح شطحات كبيرة فتطالع في كتاب "سيبويه" في النحو، أو في حواشي شروح الألفية، أو في منازعات الكوفيين والبصريين، فأصابها الاضطراب في أساسيات هذا العلم ، ولم تعد تضبط شيئا من مبانيه ومقاصده!
نسألك هنا سؤالا: من الملوم في حالة هذه الفتاة: هل هو علم النحو نفسه ، فنستدل بذلك على أنه علم قاصر ومضطرب ومتناقض ؟ أم أن النحاة الأوائل هم السبب ؟ أم إن الفتاة هي المخطئة في منهجها في تلقي العلم ، وطريقتها في القراءة والتفكر والتعلم ، فلم تتدرج في مراقي العلوم بالطريقة المنهجية الصحيحة التي يسلكها كل متعلم ؟
نعتقد أن جوابك سيكون هو الخيار الثالث؛ لأن كل من يبدأ مسيرته بطريقة خاطئة فلن يتمكن من إتمامها على الوجه الصحيح ، فالعلم له مبانيه التركيبية المنتظمة ، إذا تعاطاها المتعلم بطريقة عشوائية ، يبدأ بالنهايات، ثم يرجع إلى البدايات ، ثم ينتقل أحيانا إلى المتوسطة، هكذا بقراءات ذاتية من غير تأسيس ولا استعانة بأهل العلم أنفسهم ، فلن يتم لهذا الطالب أو القارئ وصول إلى نتيجة أبدا، إلا الحيرة والدهشة والعودة على الذات بالشكوك ، والنقمة على العلم بالضعف والاضطراب.
وهكذا لو تصورتِ فتاة تسألك عن دقائق في علم الطب مثلا، وهي لم تدرس الطب في الجامعات المعتمدة ، ولم تتعلمه على أيدي الأطباء الماهرين ، وإنما تتوزع قراءتها بين المنتديات على شبكة الإنترنت، وتستمع إلى تخليط المخلطين في كل مكان.
غرضنا من هذا المثال أن تقتنعي بخطأ منهجك في البحث وتعاطي العلم ، فالأسئلة الوجودية الكبرى التي تخوضين فيها هي تخصصات متكاملة تدرس في الجامعات والمعاهد الكبرى، في تخصصات العقائد أو علوم الكلام أو الفلسفة أو علوم الفيزياء والكون ونحوها، يؤسَّس الطالب قبلها على دراسة مجموعة من العلوم الضرورية ، وبعدها ينطلق في التفاصيل المعقدة ضمن خطة أكاديمية معروفة. ولكنك آثرت – للأسف – أن تذهبي مذهب العشوائية ، واستماع كل من يتحدث بعلم أو بغير علم ، وفهم كلامه بصواب أو بخطأ.
ونحن هنا لا نمنع على أحد أن يخوض في هذه القضايا الكلية الكبرى، ولا أن يتعلمها ويقتحم فصولها. ولكننا ندعوه إلى دخولها من أبوابها، والسير في المنهجية العلمية الأكاديمية الصحيحة في دراستها، تماما كما يتدرج الطبيب، والمهندس، وكل متخصص في تخصصه، حتى إذا أتم فهم تخصصه بدأ يخوض في دقائقه عبر الدراسات العليا مثلا، ليشرع – إذا أنجزها – في النقد والتحليل والكتابة والمشاركة في إثراء هذا العلم بمعارفه وآرائه.
ونحن على يقين أنك ستدركين حقيقة ما نقول حين تعلمين خطأ ما وقعت فيه من نفي تراجع الملحدين عن إلحادهم، ونفي حصول الهداية لأي منهم، رغم اشتهار ذلك جدا بين المثقفين والمختصين، فمثلا محمد جلال كشك (ت1993م) الذي تحول من الشيوعية المغرقة إلى مفكر إسلامي من الطراز الرفيع، والمفكر الكبير الدكتور عبد الوهاب المسيري (ت2008م) الذي تحول من المادية المطلقة إلى الإسلامية، والطبيب الدكتور مصطفى محمود (ت2009م) الذي قضى ثلاثين عاما في الشك إلى أن تحول إلى واحد من مشاهير الدعاة إلى الإيمان والعلم .
ثم هذا الدكتور فاضل السامرائي ، وهو أحد أبرز المشتغلين ببلاغة القرآن ، وإعجازه البياني ، يقص بنفسه قصة تحوله من الإلحاد إلى الإيمان ، في لقاء متلفز يمكنك مشاهدته .
والفيلسوف البريطاني أنطوني فلو (ت2010م) الذي قضى عمره ملحدا إلى أن كتب كتابه الشهير: (THERE IS A GOD)، أي "هناك إله" .
وكثيرون غيرهم تراجعوا عن ماديتهم، أو إلحادهم، أو داروينتهم العشوائية، إلى التسليم بالربوبية أو الألوهية ، أو التصميم الذكي ، أو الإسلام. يمكنك التوسع في القراءة عن حياة هؤلاء وغيرهم في شبكة الإنترنت، الأمر الذي سيعود عليك باليقين إن شاء الله بضرورة التأني في البحث، وسلوك طريق العلم الصحيح، والاستعانة بما كتبه هؤلاء الذين تراجعوا عن إلحادهم، ليصلوا إلى ما أنت عليه اليوم وجميع المسلمين من الإيمان بالخالق جل وعلا، الذي قال في محكم كتابه : ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) الزمر/ 62 ، وقال عز وجل: ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ )غافر/ 62 ، وقال سبحانه: ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )الأنعام/ 101 ، وكلها آيات جليلات واضحات على أن الله هو من خلق المادة الأولى للكون، لأنها "شيء"، والله خالق كل شيء، وموجد الوجود من العدم، وهو معنى اسمه تعالى "البارئ"، أو "الفاطر".
والواقع أن بإمكاننا هنا أن نرشدك إلى العديد من الكتابات والدراسات المنهجية في مناقشة الإلحاد وقضاياه ، مثل مؤلفات الشيخ عبد الله بن صالح العجيري وفقه الله : ميليشيا الإلحاد ، وشموع النهار ، أو مؤلفات د. سامي عامري ، أو الشيخ أحمد السيد ، ومن الممكن أيضا الاستفادة ، على وجه خاص بما ذكرت ، من كتاب : "الفيزياء ووجود الخالق" للشيخ الدكتور جعفر شيخ إدريس .
لكننا إن أردت منا أن نخلص لك النصيحة ، لا ندلك الآن ، بعدما ذكرته لنا في سؤالك ، وما بدأنا به جوابنا ، لا ندلك إلا على القرآن الكريم :
أن تعودي إليه ، لتقرئيه بتدبر وتفكر ، وقلب خال من الشبهات ، وسمع مصغ لآياته وبيناته وبراهينه ، ومواعظه ، وطوارقه .
وإن شئت أن نساعدك أكثر ، فابدئي بسورة الرعد ، فتدبريها ، واقرئيها ، واستمعي إليها ، وأنصتي إليها .
ثم سورتي : الطور ، والواقعة .
ثم سورتي الأنعام ، والنمل .
ثم أعيدي الكرة في القرآن كله ، قراءة ، وتدبرا ، وسماعا ، وتنعما به ، وتلذذا .
وأغلقي عنك أبواب المتابعات ، والشبهات ، والقيل والقال .
ونحن على يقين بأن ذلك كفيل بأن يشفي قلبك مما ألم به من وساوس الشياطين ، وخطرات النفس.
نسأل الله أن يشرح صدرك ، ويثبت الإيمان في قلبك ، ويزيدك إيمانا ، ويقينا ، وهدى .
والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب