الحمد لله.
أولا:
قراءة الفاتحة خلف الإمام في الصلاة الجهرية ، مسألة اجتهادية ، وقد قال فيها كل إمام بما أداه إليه اجتهاده ، وقد ذكرنا دليل القول بوجوب قراءتها، ودليل من منع ذلك ، فانظر جواب السؤال رقم: (66742) ، ورقم: (10995) .
ويمكنك مراجعة كتب المالكية للوقوف على ذلك.
ثانيا:
الأمر لا يتعلق بكون الإمام مالك رحمه الله عاش في المدينة ، أو كان قريبا من عهد النبوة ، فهذا قد يفيد في مسألة بلوغه الحديث أو عدم بلوغه ، لكن الأمر المؤثر هنا غالبا هو الاجتهاد في فهم النص ، فقد احتج مالك في "الموطأ" (193) بحديث أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة ، فقال : (هل قرأ معي منكم أحد آنفا ؟) ، فقال رجل : نعم ، أنا يا رسول الله ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إني أقول ما لي أنازع القرآن )، فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدل على أنه يرى القراءة كانت أول الأمر ثم منعت.
وقد ذهب إلى قريب من هذا من المعاصرين الشيخ الألباني رحمه الله ، ورأى أن القراءة خلف الإمام في الجهرية منسوخة، وقد أجبنا عن دعوى النسخ وبينا أن قوله: "فانتهى الناس عن القراءة" ليس من قول أبي هريرة ، بل هو من قول ابن شهاب الزهري ، فلا حجة فيه، وانظر جواب السؤال رقم : (231217) .
ومالك رحمه الله قد احتج بالأمر بالإنصات في القرآن ، وبهذا الحديث وبعمل أهل المدينة.
قال ابن عبد البر رحمه الله : " فأين المذهب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهر كتاب الله عز وجل وعمل أهل المدينة ؟ ألا ترى إلى قول ابن شهاب : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة حين سمعوا منه "ما لي أنازع القرآن" .
وقال مالك : الأمر عندنا أنه لا يقرأ مع الإمام فيما جهر فيه الإمام بالقراءة ، فهذا يدلك على أن هذا عمل موروث بالمدينة" انتهى من " التمهيد " (11/ 34).
وقال الباجي: " وقوله : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة حين سمعوا ذلك ؛ يريد : أنهم تلقوا إنكاره عليهم القراءة فيما جهر فيه بالانتهاء عما نهاهم عنه ، وترك ما أنكر عليهم . وهذا الحديث أصل مالك رحمه الله في ترك المأموم القراءة خلف الإمام في حال الجهر ، لأنه لما علق حكم الامتناع من القراءة على الجهر ، كان الظاهر أن الجهر علة ذلك الحكم .
وذهب الشافعي إلى أن القراءة واجبة على المأموم على كل حال ، والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك قوله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) وهذا يقتضي منع القراءة جملة وجميعِ الكلام ووجوبَ الإنصات عند قراءة كل قارئ إلا ما خصه الدليل، ودليلنا من جهة السنة ما رواه أبو صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا قرأ فأنصتوا) وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب. ودليلنا من جهة القياس أن هذا حال ائتمام فوجب أن تسقط معها القراءة عن المأموم ، أصله ما لو أدركه راكعا" انتهى من "المنتقى شرح الموطأ" (1/ 161).
وليس المراد مناقشة الأقوال في المسألة ، وإنما بيان أن مالكا وغيره من الأئمة إنما يصدرون عن اجتهاد وإعمال للنظر في الأدلة، فيترجح لهم قول معين، ويترجح لغيرهم قول آخر.
وتأمل ذلك هنا، فإن حديث أبي هريرة فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لي أنازع القرآن)، وحديث عبادة بن الصامت فيه قوله: (كُنَّا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ ، فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : ( لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ ؟) قُلْنَا : نَعَمْ ، هَذًّا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : (لا تَفْعَلُوا إِلا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، فَإِنَّهُ لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا) رواه أبو داود (823)
وهذا صريح في منع القراءة خلف الإمام في الجهرية إلا الفاتحة، وهو مخصص لعموم الأمر بالإنصات، ومقو لعموم قوله: (مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ ثَلَاثًا غَيْرُ تَمَامٍ) رواه مسلم (395).
وأما عمل أهل المدينة ، فلا يسلّم، فقد روى كثير من الصحابة في المدينة القراءة خلف الإمام.
قال النووي رحمه الله: "والذى عليه جمهور المسلمين القراءة خلف الإمام في السرية والجهرية.
قال البيهقى: وهو أصح الأقوال على السنة وأحوطها، ثم روى الأحاديث فيه، ثم رواه بأسانيده المتعددة عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبى بن كعب ومعاذ بن جبل وابن عمر وابن عباس وأبي الدرداء وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدرى وعبادة بن الصامت وأبى هريرة وهشام بن عامر وعمران وعبد الله بن مغفل وعائشة رضى الله عنهم. قال: ورويناه عن جماعة من التابعين فرواه عن عروة بن الزبير ومكحول والشعبي وسعيد بن جبير والحسن البصري رحمهم الله" انتهى من "المجموع" (3/ 365).
ثالثا:
ما قيل في هذه المسألة يقال في غيرها من مسائل الخلاف عامة، ومنها قبض اليدين أثناء القيام في الصلاة. بل هذه جاء فيها عن مالك ما يوافق قول الجمهور.
قال الحافظ ابن حجر :" قال ابن عبد البر : لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف ، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين ، وهو الذي ذكره مالك في الموطأ ، ولم يحك ابن المنذر وغيرُه عن مالك غيرَه .
وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال ، وصار إليه أكثر أصحابه .
وعنه : التفرقة بين الفريضة والنافلة .
ومنهم من كره الإمساك . ونقل ابن الحاجب أن ذلك حيث يمسك معتمدا لقصد الراحة " .
انتهى من "فتح الباري" ( 2 / 224 ) .
رابعا:
الإمام أبو حنيفة رحمه الله أحد الأئمة الأعيان، والناس في الفقه عيال عليه كما قال الشافعي رحمه الله.
وهو معظّم للكتاب والسنة، ولا يقول إلا بما أداه إليه اجتهاده، فهو بين الأجرين والأجر، إن شاء الله ، وربما فاته شيء من السنة لبعده عن المدينة ، ولهذا قد يخالفه صاحباه إذا وقفا على شيء من السنة لم يبلغه ، وقد يخالفانه لاختلاف النظر والاجتهاد فيما وقفوا عليه جميعا من الأدلة.
ولم نقف على ما ذكرته من تصحيح أحد تلاميذه لجملة من الأحاديث إلخ.
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (128658) ، ورقم: (219303) .
والنصيحة لك أن تقبل على تعلم العلم ، وألا تنشغل باختلاف الأئمة ، فكلهم مجتهدون مأجورون ، والنظر في الاختلاف والأدلة إنما يكون بعد التمكن والإتقان وتحصيل كثير من العلوم كاللغة وأصول الفقه.
نسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد.
والله أعلم.
تعليق