الحمد لله.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشياطين تصفد وتسلسل في شهر رمضان.
روى البخاري (3277)، ومسلم (1079) عَن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ، وفي رواية لمسلم: وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ.
وورد بلفظ يدل على أن الشياطين التي تصفد وتسلسل هي المردة منهم، وليس كلهم، وهذا الذي رجحه ابن خزيمة رحمه الله تعالى، حيث قال:
" باب ذكر البيان أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بقوله: ( وصفدت الشياطين )، مردة الجن منهم، لا جميع الشياطين، إذ اسم الشياطين قد يقع على بعضهم... " انتهى من "صحيح ابن خزيمة" (3 / 188).
ثم قال (1883): حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ كُرَيْبٍ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ مَرَدَةُ الْجِنِّ... ).
وتبعه ابن حبان رحمه الله تعالى على هذا القول ، وعلى الاستدلال بهذا الحديث بهذا الإسناد كما في "الإحسان" (8/ 221 - 222).
لكن هذه الرواية ضعفها الإمام البخاري وبين أن فيها وَهْمًا، وأن الأصح ما رواه الأحوص عن الأعمش عن مجاهد من قوله.
قال الترمذي رحمه الله تعالى:
" حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ. وَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ هَذَا الحَدِيثِ؟
فَقَالَ: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: ( إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ) فَذَكَرَ الحَدِيثَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ " انتهى من "سنن الترمذي" (3 / 59).
ثم إنّه قد اضطرب المصنفون في هذه الرواية، فبينما رواها ابن حبان وابن خزيمة بلفظ: صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ مَرَدَةُ الْجِنِّ.
رواها الترمذي (682)، وابن ماجه (1642)، وغيرهما؛ بلفظ: صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ.
وروي ما يشهد لهذا التقييد، روى الإمام أحمد في "المسند" (13/295)، قال: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ فِي رَمَضَانَ، لَمْ تُعْطَهَا أُمَّةٌ قَبْلَهُمْ: خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُفْطِرُوا، وَيُزَيِّنُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ يَوْمٍ جَنَّتَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: يُوشِكُ عِبَادِي الصَّالِحُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُمُ الْمَئُونَةَ وَالْأَذَى وَيَصِيرُوا إِلَيْكِ، وَيُصَفَّدُ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، فَلَا يَخْلُصُوا فِيهِ إِلَى مَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ ... .
لكن إسناده ضعيف.
قال محققو المسند:
" إسناده ضعيف جدا، هشام بن أبي هشام - وهو هشام بن زياد القرشي أبو المقدام - متفق على ضعفه، ومحمد بن محمد بن الأسود - وهو ابن بنت سعد بن أبي وقاص - مجهول الحال، لم يرو عنه غير هشام هذا وعبد الله بن عون، وذكره ابن حبان في "الثقات"! " انتهى.
وروى النسائي (2106)، قال: أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ.
لكن هذا إسناد مختلف في صحته، فذهب جمع من علماء الحديث إلى أن رواية أبي قلابة عن أبي هريرة مرسلة غير متصلة.
قال ولي الدين العراقي رحمه الله تعالى:
" عبد الله بن زيد أبو قلابة الجرمي...
قال العلائي: روايته عن عمر بن الخطاب، أبي هريرة، وابن عباس، ومعاوية، وسمرة، والنعمان بن بشير في سنن النسائي، والظاهر في ذلك كله الإرسال...
قلت: ذكر المزي روايته عن ابن عباس، وابن عمر، ومعاوية، والنعمان بن بشير، وهشام بن عامر الأنصاري، وأبي ثعلبة الخشني، وأبي هريرة، وقال: يقال لم يسمع منهم " انتهى. "تحفة التحصيل" (ص 176 – 177).
وعلى القول باتصال السند؛ فقد روي هذا الحديث من طريق صحيح من غير تقييد بـ "المردة".
روى الإمام أحمد في "المسند" (12/59) ، قال: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا، فَقَدْ حُرِمَ .
قال محققو المسند: " صحيح، وهذا إسناد رجاله رجال الشيخين، وأبو قلابة -واسمه عبد الله بن زيد الجرمي- روايته عن أبي هريرة مرسلة " انتهى.
وهناك شاهد آخر رواه النسائي (2108)، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَرْفَجَةَ، قَالَ: كُنْتُ فِي بَيْتٍ فِيهِ عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُحَدِّثَ بِحَدِيثٍ، وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّهُ أَوْلَى بِالْحَدِيثِ مِنِّي، فَحَدَّثَ الرَّجُلُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فِي رَمَضَانَ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ النَّارِ، وَيُصَفَّدُ فِيهِ كُلُّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، وَيُنَادِي مُنَادٍ كُلَّ لَيْلَةٍ: يَا طَالِبَ الْخَيْرِ هَلُمَّ، وَيَا طَالِبَ الشَّرِّ أَمْسِكْ.
لكن هذا الحديث ورد في روايات أخرى عند النسائي (2107) وغيره، بلفظ: وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ.
وعلى القول بصحة الرواية بلفظ : وَيُصَفَّدُ فِيهِ كُلُّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ.
فهذه العبارة لا يتعيَّن أن يكون مرادا منها التقييد، لأن كل شيطان هو مريد، لتعرِّيه عن كل خير، وجريانه في معصية الله تعالى.
فالحاصل؛ أن الراجح هو الإطلاق كما في رواية الصحيحين، وأنه تصفد الشياطين من غير تقييد بمردتهم.
وينظر جواب السؤال (221162)
والله أعلم
تعليق