الحمد لله.
أولا :
يجوز لصاحب الأرض أن يدفعها إلى من يعمل على شجرها أو يزرعها ، ثم يقتسمان ما خرج منها حسبما يتفقان ، لكل واحد منهما النصف ، أو لأحدهما الثلث وللآخر الثلثان أو غير ذلك .
وهذه المعاملة تسمى " المزارعة والمساقاة " ، فإذا كانت المعاملة على أرض ذات شجر ، كالنخل مثلا ، فهي "المساقاة" .
وإن كانت على أرض لتزرع بالبر أو الشعير ونحوهما مما لا ساق له فهي "المزارعة" .
ودليل جوازها هو معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر ، حيث أعطاهم صلى الله عليه وسلم الأرض يعملون فيها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع . رواه البخاري (2366) .
والواجب في قسمة المحصول : أن تكون القسمة بينهما مشاعة فيما يخرج منها ، كربع المحصول أو نصفه ونحو ذلك .
ولا يجوز أن يُشترط لأحدهما من المحصول قدر محدد كمائة كيلو مثلا ؛ لما في ذلك من الغرر فقد لا يحصل الآخر على شيء ، وقد يحصل له أكثر مما يستحقه بكثير ، فيُغبن الآخر.
وكذلك لا يجوز أن يشترط لأحدهما محصول الجزء الشرقي من البستان وللآخر الغربي مثلا ، أو ناحية من الأرض وللآخر الناحية أخرى ؛ فقد يصلح جزء من الأرض ولا يصلح الجزء الآخر، فيكون أحدهما غانما والآخر غارما ، وهذا ينافي القصد من الشراكة ، وهو اشتراك الشركاء في الربح والخسارة .
فإن كانت شراكة حقيقية في المغنم والمغرم ، بحيث إن حصل ربح فهو لهما ، وإن حصلت خسارة فهي عليهما ، فيخسر العامل جهده ، ويخسر صاحب الأرض تعطيل أرضه هذه المدة ، فهي شراكة جائزة .
ثانيا :
أما ما ينفق على الأرض كثمن البذر وتكاليف الحرث والسقي والحصاد ... ونحو ذلك .
فقد اشترط بعض العلماء أن يكون البذر من صاحب الأرض ، وأن يكون الحرث والسقي والحصاد .. وسائر العمل على العامل .
والصواب في هذا كله أنه يُرجع فيه إلى ما اتفق عليه الشريكان ، فيجوز أن يتفق الشريكان على أن تكون تكاليف البذر والحرث والسقي .. إلخ ، على صاحب الأرض أو على العامل ، كما يجوز أن يتفقا أن تكون بعض هذه التكاليف على أحدهما وسائرها على الشريك الآخر .
فإذا لم يقع النص على هذه الأشياء أو بعضها فالمرجع في ذلك إلى العرف .
قال ابن قدامة رحمه الله :
" " وَإِنْ أَطْلَقَا الْعَقْدَ، وَلَمْ يُبَيِّنَا مَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ، كَانَ تَأْكِيدًا .
وَإِنْ شَرَطَا عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْئًا مِمَّا يَلْزَمُ الْآخَرَ، فَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا تَفْسُدُ الْمُسَاقَاةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَأَفْسَدَهُ، كَالْمُضَارَبَةِ إذَا شُرِطَ الْعَمَلُ فِيهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْجذَاذَ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ شَرَطَهُ عَلَى الْعَامِلِ، جَازَ. وَهَذَا مُقْتَضَى كَلَامِ الْخِرَقِيِّ فِي الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُخِلُّ بِمَصْلَحَةِ الْعَقْدِ، وَلَا مَفْسَدَةَ فِيهِ، فَصَحَّ، كَتَأْجِيلِ الثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ ..
، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَا يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَمَلِ مَعْلُومًا، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى التَّنَازُعِ وَالتَّوَاكُلِ، فَيَخْتَلَّ الْعَمَلُ " انتهى من "المغني" (5/298) .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ما أخرجه حرب الكرماني بسنده " أن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَجْلَى أَهْلَ نَجْرَانَ وَأَهْلَ فَدَكَ وَأَهْلَ خَيْبَرَ، وَاسْتَعْمَلَ يَعْلَى بن أمية فَأَعْطَى الْعِنَبَ وَالنَّخْلَ [يعني أعطى مزارع النخل والعنب لمن يعمل فيها] ، عَلَى أَنَّ لعمر الثُّلُثَيْنِ وَلَهُمُ الثُّلُثُ، وَأَعْطَى الْبَيَاضَ - يَعْنِي بَيَاضَ الْأَرْضِ - عَلَى: إِنْ كَانَ الْبَذْرُ وَالْبَقَرُ وَالْحَدِيدُ مِنْ عِنْدِ عمر، فلعمر الثُّلُثَانِ وَلَهُمُ الثُّلُثُ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فلعمر الشَّطْرُ، وَلَهُمُ الشَّطْرُ .
ثم قال شيخ الإسلام :
" فَهَذَا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَعْلَى بن أمية عَامِلُهُ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَمِلَ فِي خِلَافَتِهِ بِتَجْوِيزٍ كِلَا الْأَمْرَيْنِ: أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَامِلِ " انتهى من "القواعد النورانية" (ص:252) .
وقال أيضا :
" وَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ، فَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ، أَوْ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، أَوْ كَانَ مِنْ شَخْصٍ أَرْضٌ، وَمِنْ آخَرَ بَذْرٌ، وَمِنْ ثَالِثٍ الْعَمَلُ، فَفِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ.
وَالصَّوَابُ أَنَّهَا تَصِحُّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ فَهُوَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِمَّا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – " عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقِصَّةُ أَهْلِ خَيْبَرَ هِيَ الْأَصْلُ فِي جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَبْذُرُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِيهِمْ بَذْرًا مِنْ عِنْدِهِ، وَهَكَذَا خُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ مِثْلُ: عُمَرَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُزَارِعُونَ بِبَذْرٍ مِنْ الْعَامِلِ...
وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ الْمُزَارَعَةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ، فَلَيْسَ مَعَهُمْ بِذَلِكَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَا أَثَرٌ عَنْ الصَّحَابَةِ ...
وَكَانَ عُمَرُ يُزَارِعُ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ، فَلَهُ كَذَا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَامِلِ، فَلَهُ كَذَا ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ.
فَجَوَّزَ عُمَرُ هَذَا وَهَذَا ، وهذا هو الصواب " انتهى ، باختصار ، من "الفتاوى الكبرى" (5/100-101) .
وقال أيضا :
" وَأَمَّا مُؤْنَةُ الحصادين : فَعَلَى مَنْ اشْتَرَطَاهُ؛ إنْ اشْتَرَطَا الْمُؤْنَةَ عَلَيْهِمَا ، فَهِيَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ شَرَطَاهَا عَلَى أَحَدِهِمَا ، فَهِيَ عَلَيْهِ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (30/122) .
وقال الشيخ ابن عثيمين :
" لو قال قائل: أين في كتاب الله أو سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن هذا عليه كذا أو عليه كذا ؟
نقول: المرجع في ذلك إلى العرف، وذلك على القاعدة المعروفة :
وكُلُّ ما أَتَى ولَمْ يُحَدَّدِ* بالشَّرعِ كالحِرْزِ فبِالْعُرْفِ احْدُدِ .
فإذا كان العرف مطرداً ، فبها ونعمت، وهذا هو المطلوب، ونمشي على ما جرى عليه العرف.
وإذا لم يكن مطرداً، وجب على كل منهما أن يُبَيِّن للآخر ما عليه وما له ، حتى لا يقع نزاع؛ لأنه من المعلوم أن المتعاقدين عند أول الدخول في العقد، يكون كل واحد منهما مشفقاً، وربما ينسى أو يتناسى بعض الشروط، ويقول: هذا هَيِّن، لكن نقول: هذا لا يجوز، فلا بد أن يكون الشيء واضحاً بيّناً؛ لأنه ربما يحدث نزاع ثم لا نستطيع أن نؤلف بين الطرفين" انتهى من "الشرح الممتع" (9/456) .
والله أعلم .
تعليق