الحمد لله.
أولا :
نعم نسعى لإصلاح الواقع ، وإن علمنا أن الآخرين يسعون للإفساد ، بل إن سعيهم للإفساد يدفعنا لمزيد من مقاومة ذلك ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، باليد واللسان والقلب ؛ لمنع انتشار الظلم والفساد في الأمة ، وحتى لا تستحق الأمة اللعنة التي حلّت على من قبلهم من الأمم التي تركت هذه الشعيرة العظيمة ، قال تعالى : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) المائدة/78-79
وليس من الحكمة في شيء : أن يترك الإنسان مدافعة الباطل ، ويقول ما الفائدة من الإصلاح ، ما دام أن حال الناس سيصير إلى فساد ؟!
وفي مدافعة الباطل الكثير من الحكم والمصالح ، فمن ذلك :
أن تلك المدافعة هي عبادة لله تعالى وجهاد في سبيله وامتثال لأمره ، واقتداء بأنبيائه عليهم الصلاة والسلام .
ومنها : أن قيام المسلم بمدافعة الباطل والفساد ، وسعيه في إصلاح المجتمع الذي يعيش فيه من أسباب نجاة المسلم يوم القيامة ، قال الله تعالى : (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) فهؤلاء الناجون من الخسران كملوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصلاح ، ومنه مدافعة الفساد – وسعوا في تكميل غيرهم بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر .
قال السعدي رحمه الله في تفسيره لسورة العصر (ص 934) : "فبالأمرين الأولين، يكمل الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة، يكون الإنسان قد سلم من الخسار، وفاز بالربح العظيم" انتهى .
ومنها : قيام الحجة على المفسدين المعاندين ، وإقامة الحجة على الناس هو مقصد إرسال الرسل (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) النساء/165 ، وقد انتهت النبوة بموت نبينا صلى الله عليه وسلم ، فأتباعه يقومون بهذه الوظيفة من بعده إلى قيام الساعة ، حتى لا يكون لأحد حجة على الله ، فيقول : ما جاءني من بشير ونذير .
ومنها : ما قد يحصل من استجابة البعض ، وقد تكون الاستجابة عامة ، فيحصل نفع عام عظيم ، كما وقع ذلك ويقع في أماكن كثيرة .
وقد قال الله تعالى في قصة أصحاب السبت : (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الأعراف/164 .
وقد علم الله من الناس إفسادهم وأخبر بذلك في كتابه ، ومع ذلك أمر بالإصلاح ، وأرسل رسله به فخرج من تحت أيديهم ، العباد والزهاد والأولياء والصديقون والشهداء والعلماء ؛ وأقاموا حجة الله على العباد ونجا بفضلهم من النار من نجا .
ولما أخبر الله تعالى الملائكة بخلق آدم وذريته (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) فأجابهم سبحانه وتعالى بقوله ( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) البقرة/30.
قال ابن كثير رحمه الله :
" وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ، ولا على وجه الحسد لبني آدم ، كما قد يتوهمه بعض المفسرين ، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول ، أي : لا يسألونه شيئاً لم يأذن لهم فيه ، .. وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ؛ يقولون: يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء ، مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ؟!! فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، أي نصلي لك ... ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا ؟
قال الله تعالى مجيباً لهم عن هذا السؤال : ( إني أعلم مالا تعلمون ) أي : إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف ، على المفاسد التي ذكرتموها ، مالا تعلمون أنتم ؛ فإني جاعل فيهم الأنبياء ، وأرسل فيهم الرسل ، ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم .. ) انتهى، من "تفسير ابن كثير" (1/69) .
ثانيا :
من سنن الله التي جعلها في عباده : المدافعة بين الحق والباطل ، وهي بمثابة الامتحان للعباد ليستحق الجنة من استجاب ، ونجح في هذا الامتحان ، ويستحق النار من أبى .
ولقد كان من حكمة الله في خلقه أن يكون في الناس فريقان : مؤمن طائع وكافر عاص ، وأن يحصل التدافع بين الفريقين : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) البقرة/251 (ُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) الحج/40
ولله في ذلك الحكمة البالغة ؛ فيتميز الصادق من الكاذب ، ومن ينصر الله ورسوله ويكون في حزب الله ، ومن يعادي الله ورسوله ويكون في حزب الشيطان وأوليائه .
وهذه هي حقيقة الابتلاء في هذه الحياة : ( ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ) محمد/4 .
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حكم أخرى ، بل هو من أسس هذا الدين ، وأسباب خيرية هذه الأمة ، وتفضيلها على الأمم الذين أهملوا شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والسعي إلى الصلاح ، والإصلاح ، والنهي عن الإفساد ، وسبيل المفسدين .
قال الله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) آل عمران/110
وقال تعالى : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) المائدة/78-79
وقد قَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَؤونَ هَذِهِ الْآيَةَ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة: 105] ، وَإِنَّا سَمِعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغيِّرُوهُ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابِهِ " .
رواه الإمام أحمد في مسنده ، برقم (1) ، وغيرُه ، وصححه الألباني .
وينظر فيها جواب السؤال (11403) .
ثالثا :
أما كون الدنيا زائلة ، فنعم ؛ هي زائلة ، ولا يعني هذا أننا نترك أهل الفساد يتمكنون من إفسادها.
فنحن لا نصلحها من أجل أنها باقية أبدا ، ولا من أجل أننا مخلدون فيها ؛ بل نصلحها امتثالا لأمر الله تعالى الذي أمرنا بإصلاحها وتعميرها ، (هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) هود/61 .
ولذلك قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ) . رواه أحمد (1298) من حديث أنس ، وصححه الألباني .
وأعظم ما يكون من الصلاح ، والإصلاح : دعوة الناس إلى توحيد رب العالمين ، والعمل بطاعته ، وتعبيد الناس لرب العالمين ، قال الله تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا) الأعراف/56 .
قال السعدي رحمه الله :
"(وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ) بعمل المعاصي (بَعْدَ إِصْلاحِهَا) بالطاعات، فإن المعاصي تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق، كما قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) كما أن الطاعات تصلح بها الأخلاق، والأعمال، والأرزاق، وأحوال الدنيا والآخرة" انتهى.
فالذي ينبغي للمسلم أن يسعى في الإصلاح قدر استطاعة (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) هود/88 .
وليوقن أنه مهما علا الفساد وأهله فهو علو زائف مؤقت ، فالعاقبة للمتقين ، وقد مر على تاريخ الأمة الإسلامية فترات علا فيه الفساد ، إلا أن الله تعالى كان يوفق المصلحين من المؤمنين في مدافعة هذا الفساد وإزالته ، والعودة بالأمة إلى العلو والرفعة بطاعتها لله تعالى .
والله أعلم .
تعليق