الحمد لله.
أولا :
الحديث الذي ذكره السائل حديث صحيح ، أخرجه الإمام أحمد في "فضائل الصحابة" (1331) ، والحاكم في المستدرك (4853) ، من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قال لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَلَا أُبَشِّرُكَ ، أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " سَيِّدَاتُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَرْبَعٌ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَآسِيَةُ ".
والحديث صحيح ، وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (3/411) فقال :" أخرجه الحاكم (3 / 185) وقال: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي ، وهو كما قالا ". انتهى
ثانيا :
وأهل السنة متفقون على فضل مريم وآسية وفاطمة وخديجة وعائشة وأمهات المؤمنين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك أهل السنة متفقون على أنهن لسن سواء في الفضل ، مع اختلاف بين أهل العلم من أهل السنة في ترتيبهن في الفضل ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (4/394) : " وَأَفْضَلُ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ " خَدِيجَةُ " وَ " عَائِشَةُ " وَ " فَاطِمَةُ ". وَفِي تَفْضِيلِ بَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ نِزَاعٌ " . انتهى .
ومنشأ الخلاف وجود جمع من النصوص في فضلهن جميعا ، ليس بين هذه النصوص نص قطعي الدلالة بترتيب معين ، ولذا تذكر مسألة مشهورة وهي هل خديجة رضي الله عنها أفضل أم عائشة رضي الله عنها ؟ ويذكر أهل العلم فيها ثلاثة أقوال ، أولها أن خديجة أفضل ، والثاني أن عائشة أفضل ، والثالث : التوقف في المسألة .
قال ابن القيم في "جلاء الأفهام" (ص234) بعد حديثه عن خديجة رضي الله عنها قال :" واختلف في تفضيلها على عائشة رضي الله عنها على ثلاثة أقوال ؛ ثالثها : الوقف ". انتهى
ثالثا :
بالنسبة للحديث الذي أورده السائل ، وأن سيدات أهل الجنة ليس منهن عائشة رضي الله عنها ، فإن ذلك لا يقدح فيها ، بل ولا يلزم منه فضلهن عليها .
وقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري (3411) ، ومسلم (2431) من حديث أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ".
فهذا الحديث يثبت فضل عائشة رضي الله عنها على النساء ، واختلف أهل العلم في "ال" في النساء هل تدل على "العموم" ، فتكون عائشة مفضلة على جميع النساء ؟ أم هو عام مخصوص ؟
قال شيخ الإسلام في "منهاج السنة النبوية" (4/301) :" إِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَيْسُوا مُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ أَفْضَلُ نِسَائِهِ ، بَلْ قَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ . انتهى .
وقال القاري في "مرقاة المفاتيح" (9/3993) :" وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسَاءِ جِنْسُهُنَّ ، أَوْ أَزْوَاجُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمُومًا ، أَوْ بَعْدَ خَدِيجَةَ .
وَالْأَظْهَرُ : أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ ، مِنْ حَيْثُ الْجَامِعِيَّةُ لِلْكَمَالَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ ، الْمُعَبَّرُ عَنْهُمَا فِي التَّشْبِيهِ بِالثَّرِيدِ ، فَإِنَّمَا يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِالثَّرِيدِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ طَعَامِ الْعَرَبِ ، وَأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَالْمَرَقَةِ ، وَلَا نَظِيرَ لَهَا فِي الْأَغْذِيَةِ ، ثُمَّ إِنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ الْغِذَاءِ وَاللَّذَّةِ وَالْقُوَّةِ وَسُهُولَةِ التَّنَاوُلِ وَقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ فِي الْمَضْغِ ، وَسُرْعَةِ الْمُرُورِ فِي الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ ، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا الْمَثَلَ بِهِ لِيُعْلِمَ أَنَّهَا أُعْطِيَتْ مَعَ حُسْنِ الْخَلْقِ ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَحُسْنِ الْحَدِيثِ ، وَحَلَاوَةِ الْمَنْطِقِ ، وَفَصَاحَةِ اللَّهْجَةِ ، وَجَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ ، وَرَزَانَةِ الرَّأْيِ ، وَرَصَانَةِ الْعَقْلِ = التَّحَبُّبَ إِلَى الْبَعْلِ ؛ فَهِيَ تَصْلُحُ لِلتَّبَعُّلِ ، وَالتَّحَدُّثِ وَالِاسْتِئْنَاسِ بِهَا وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهَا، وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي اجْتَمَعَتْ فِيهَا ، وَحَسْبُكَ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي أَنَّهَا عَقَلَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ تَعْقِلْ غَيْرُهَا مِنَ النِّسَاءِ ، وَرَوَتْ عَنْهُ مَا لَمْ يَرْوِ مِثْلُهَا مِنَ الرِّجَالِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ ". انتهى .
ولأجل التردد في دلالة النص على ذلك ، وعدم التصريح في أي من النصوص بخصوص التفضيل المذكور ، ذهب كثير من أهل العلم إلى الوقف في المسألة .
قال الشيخ تقي الدين السبكي رحمه الله ، في "قضاء الأرب في أسئلة حلب" (ص235) :
" وقد قال المتولي من أصحابنا : تكلم الناس في عائشة وفاطمة ، أيهما أفضل ؟ ، والأولى للعاقل أن لا يشتغل بمثل ذلك.... والكلام في التفضيل صعب ، ولا ينبغي التكلم إلا بما ورد ، والسكوت عما سواه وحفظ الأدب ، رضي الله عن الجميع ، ورزقنا محبتهم ونفعنا بهم ". انتهى
وقال ابن كثير رحمه الله في "قصص الأنبياء" (2/380) - في معرض حديثه عن التفاضل بين خديجة وعائشة رضي الله عنهما - :" وَالْأَحْسَنُ : الْوَقْفُ فِيهِمَا رَضِيَ الله عَنْهُمَا ؛ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ " يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرِهِنَّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَدَا الْمَذْكُورَاتِ".انتهى .
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم (145623) ورقم (239411).
رابعا :
وقد ذهب الإمام ابن حزم رحمه الله ، إلى أن لفظ " سيدات أهل الجنة " : "نص" في إثبات السيادة ، والسيادة : الشرف ، ولكن لا يلزم لإثبات السيادة على الغير ثبوت الفضل عليه ، فقد يُسود المرء على من هو أفضل منه لمتعلقات أخرى .
قال رحمه الله في "الفصل في الملل والأهواء والنحل" (4/103) :"
والسيادة غير الْفضل ، وَلَا شكّ أَن فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا سيدة نسَاء الْعَالمين بِوِلَادَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهَا ، فالسيادة من بَاب الشّرف لَا من بَاب الْفضل ، فَلَا تعَارض بَين الحَدِيث الْبَتَّةَ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين . وَقد قَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وهُوَ حجَّة فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة :" كَانَ أَبُو بكر خير وَأفضل من مُعَاوِيَة وَكَانَ مُعَاوِيَة أسود من أبي بكر " ، فَفرق ابْن عمر كَمَا ترى بَين السَّادة وَبَين الْفضل وَالْخَيْر ، وَقد علمنَا أَن الْفضل هُوَ الْخَيْر نَفسه، لِأَن الشَّيْء إِذا كَانَ خيرا من شَيْء آخر، فَهُوَ أفضل مِنْهُ بِلَا شكّ ". انتهى
وقال أيضا (4/96) :" وَإِنَّمَا تقع المفاضلة بَين الفاضلين إِذا كَانَ فضلهما وَاحِدًا، من وَجه وَاحِد فتفاضلا فِيهِ . وَأما إِن كَانَ الْفضل من وَجْهَيْن اثْنَيْنِ ، فَلَا سَبِيل إِلَى المفاضلة بَينهمَا ، لِأَن معنى قَول الْقَائِل أَي هذَيْن أفضل ، إِنَّمَا هُوَ : أَي هذَيْن أَكثر أوصافاً فِي الْبَاب الَّذِي اشْتَركَا فِيهِ ". انتهى.
ومن أحسن ما قيل في هذا الباب ما ذكره ابن القيم رحمه في "بدائع الفوائد" (3/161) :" الخلاف في كون عائشة أفضل من فاطمة أو فاطمة أفضل ، إذا حرر محل التفضيل ، صار وفاقا . فالتفضيل ، بدون التفصيل : لا يستقيم .
فإن أريد بالفضل : كثرة الثواب عند الله عز وجل ؛ فذلك أمر لا يطلع عليه إلا بالنص ، لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب ، لا بمجرد أعمال الجوارح ، وكم من عاملين أحدهما أكثر عملا بجوارحه ، والآخر أرفع درجة منه في الجنة .
وإن أريد بالتفضيل : التفضل بالعلم ؛ فلا ريب أن عائشة أعلم ، وأنفع للأمة ، وأدت إلى الأمة من العلم ما لم يؤد غيرها ، واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها .
وإن أريد بالتفضيل : شرف الأصل وجلالة النسب ؛ فلا ريب أن فاطمة أفضل ، فإنها بضعة من النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك اختصاص لم يشركها فيه غير أخواتها .
وإن أريد السيادة : ففاطمة سيدة نساء الأمة .
وإذا تبينت وجوه التفضيل ، وموارد الفضل وأسبابه : صار الكلام بعلم وعدل .
وأكثر الناس إذا تكلم في التفضيل لم يفصل جهات الفضل ، ولم يوازن بينهما ؛ فيبخس الحق !!
وإن انضاف إلى ذلك نوع تعصب وهوى لمن يفضله : تكلم بالجهل والظلم .
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن مسائل عديدة من مسائل التفضيل ، فأجاب فيها بالتفصيل الشافي ...
ومنها : أنه سئل عن خديجة وعائشة ، أمي المؤمنين ؛ أيهما أفضل؟
فأجاب : بأن سبق خديجة وتأثيرها في أول الإسلام ، ونصرها وقيامها في الدين : لم تشركها فيه عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين .
وتأثير عائشة في آخر الإسلام ، وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة ، وإدراكها من العلم ما لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها : مما تميزت به غيرها .
فتأمل هذا الجواب الذي لو جئت بغيره من التفضيل مطلقا لم تخلص من المعارضة ". انتهى
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم (7181).
خامسا :
الأحاديث الصحيحة الواردة في فضل عائشة رضي الله عنها كثيرة جدا .
منها : أن عمرو بن العاص رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم :" أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: عَائِشَةُ ، فَقُال : مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: أَبُوهَا . أخرجه البخاري (3662) ، ومسلم (2384) .
ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة رضي الله عنها :" لاَ تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ فَإِنَّ الوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلَّا عَائِشَةَ " . ولما قَالَتْ فاطمة لرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ العَدْلَ فِي بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ:" أَيْ بُنَيَّةُ أَلَسْتِ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟» فَقَالَتْ: بَلَى ، قَالَ :" فَأَحِبِّي هَذِهِ ". أخرجه البخاري (2581) ، ومسلم (2442) ، وغير ذلك كثير .
والله أعلم .
تعليق