الحمد لله.
أولا :
نص عدد من أهل العلم على أن بعد نزول التوراة لم يعذب الله تعالى الكفار بعذاب الاستئصال، بل شرع للمؤمنين جهاد هؤلاء الكفرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وكان قبل نزول التوراة يهلك الله المكذبين للرسل بعذاب الاستئصال، عذابا عاجلا يهلك الله به جميع المكذبين، كما أهلك قوم نوح، وكما أهلك عادا، وثمود، وأهل مدين، وقوم لوط، وكما أهلك قوم فرعون، وأظهر آيات كثيرة لما أرسل موسى ليبقى ذكرها وخبرها في الأرض، إذ كان بعد نزول التوراة لم يهلك أمة بعذاب الاستئصال " انتهى. "الجواب الصحيح" (6 / 441 - 442).
وقد أوضح الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى مأخذ هذا القول من القرآن؛ أثناء تفسيره لقوله تعالى :
( ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ، فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ، فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) المؤمنون (45 – 49).
فقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى:
" مر عليَّ منذ زمان طويل كلام لبعض العلماء لا يحضرني الآن اسمه، وهو أنه بعد بعث موسى ونزول التوراة، رفع الله العذاب عن الأمم، أي: عذاب الاستئصال، وشرع للمكذبين المعاندين الجهاد، ولم أدر من أين أخذه، فلما تدبرت هذه الآيات، مع الآيات التي في سورة القصص، تبين لي وجهه، أما هذه الآيات، فلأن الله ذكر الأمم المهلكة المتتابعة على الهلاك، ثم أخبر أنه أرسل موسى بعدهم، وأنزل عليه التوراة فيها الهداية للناس !!
ولا يرد على هذا، إهلاك فرعون، فإنه قبل نزول التوراة، وأما الآيات التي في سورة القصص، فهي صريحة جدا، فإنه لما ذكر هلاك فرعون قال: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) فهذا صريح أنه آتاه الكتاب بعد هلاك الأمم الباغية، وأخبر أنه أنزله بصائر للناس وهدى ورحمة .
ولعل من هذا، ما ذكر الله في سورة " يونس " من قولة: ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ ) أي: من بعد نوح ( رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ، ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ ) الآيات والله أعلم " انتهى. "تفسير السعدي" (ص 552).
واستدل ابن كثير رحمه الله تعالى لهذا القول؛ بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا، وَلَا قَرْنًا، وَلَا أُمَّةً، وَلَا أَهْلَ قَرْيَةٍ مُنْذُ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ ؛ غَيْرَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّتِي مُسِخَتْ قِرَدَةً، أَلَمْ تَرَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهَدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ). ) .
رواه الحاكم في "المستدرك" (2 / 408) وقال: " صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ "، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في"السلسلة الصحيحة" (5 / 327).
ثانيا:
عن عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
( هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟
قَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ) .
رواه البخاري (3231) ومسلم (1795).
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: ( سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا ، وَأَنْ تُنَحَّى عَنْهُمُ الْجِبَالُ ، فَيَزْرَعُوا فِيهَا .
فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ شِئْتَ آتَيْنَاهُمْ مَا سَأَلُوا ، فَإِنْ كَفَرُوا أُهْلِكُوا كَمَا أَهْلَكْتُ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ أَسْتَأْنِيَ بِهِمْ لَعَلَّنَا نَسْتَحْيِي مِنْهُمْ ؟!
فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ: ( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) الآية. ) .
رواه الحاكم في "المستدرك" (2 / 362) وقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ " ووافقه الذهبي، وقال الألباني: " ورجاله كلهم ثقات رجال الشيخين؛ فهو على شرطهما " من "السلسة الصحيحة" (7 / 1160).
غير أنه اختلف في رفعه ووقفه ، وذكر الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (2/5) : أن "الأشبه وقفه" . وهو الأكثر في روايته . وينظر : "السلسلة الصحيحة" الموضع السابق .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وقال تعالى: ( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ).
بين سبحانه أنما منعه أن يرسل بالآيات إلا تكذيب الأولين بها، الذي استحقوا بها الهلاك، فإذا كذب بها هؤلاء استحقوا ما استحقه أولئك من عذاب الاستئصال، وهذا المعنى مذكور في عامة كتب التفسير والحديث، وغيرها من كتب المسلمين، وهو معروف بالأسانيد الثابتة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان " انتهى. "الجواب الصحيح" (6 / 431 - 432).
وهذان الحديثان لا يظهر فيهما معارضة لما ذكره أهل العلم من رفع عذاب الاستئصال بعد نزول التوراة، ويبين عدم وجود التعارض أمران:
الأمر الأول: أن التعارض يُتَصوَّر لو أن نصوص الوحي نصت على أن الله أخبر بعدم وقوع عذاب الاستئصال بأهل الكفر مطلقا بعد نزول التوراة، على غرار خبر الله بعدم تعذيب هذه الأمة المسلمة بعذاب الأمم السابقة.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، عَنْ أَبِيهِ ـ وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ رَاقَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّيْلَةَ كُلَّهَا حَتَّى كَانَ مَعَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ جَاءَهُ خَبَّابٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَابُي أَنْتَ وَأُمِّي، لَقَدْ صَلَّيْتَ اللَّيْلَةَ صَلَاةً مَا رَأَيْتُكَ صَلَّيْتَ نَحْوَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَجَلْ، إِنَّهَا صَلَاةُ رَغَبٍ وَرَهَبٍ ؛ سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا ثَلَاثَ خِصَالٍ، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُهْلِكَنَا بِمَا أَهْلَكَ بِهِ الْأُمَمَ قَبْلَنَا، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُظْهِرَ عَلَيْنَا عَدُوًّا مِنْ غَيْرِنَا، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يَلْبِسَنَا شِيَعًا، فَمَنَعَنِيهَا ) رواه النسائي (1638) ، وصححه الألباني في "صحيح سنن النسائي".
لكن نصوص الوحي التي أشارت إلى رفع عذاب الاستئصال عن الكفار– وهي حديث أبي سعيد والآيات التي نبه إليها الشيخ السعدي- هي تخبر عن واقع الأمر الحاصل ، ولم تنص على أن الله أخبر ، أو وعد ، أو أوجب على نفسه ذلك . فتأمل ذلك الفرق المهم بين البابين .
ومما يؤيد هذا أن حديث أبي سعيد نص على وقوع عذاب عام بأهل قرية بعد نزول التوراة حيث مسخوا قردة.
فالحاصل؛ أن الله تعالى لو أطبق الجبال على كفار مكة لما كان فيه معارضة لخبر سابق ، ولا خلف لوعد منه سبحانه وتعالى .
الأمر الثاني:
أهل العلم استنبطوا من نصوص الوحي أن عذاب الاستئصال رفع لأن الله جعل بدل الاستئصال للكفار جهاد المؤمنين لهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" المعروف عند أهل العلم أنه بعد نزول التوراة لم يهلك الله مكذبي الأمم بعذاب من السماء يعمهم، كما أهلك قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وفرعون، وغيرهم، بل أمر المؤمنين بجهاد الكفار؛ كما أمر بني إسرائيل على لسان موسى بقتال الجبابرة " انتهى من "الجواب الصحيح" (2 / 251).
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى ) يعني: أنه بعد إنزال التوراة لم يعذب أمة بعامة، بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله من المشركين " انتهى. "تفسير ابن كثير" (6 / 239).
وهذا المعنى الذي لأجله رفع عذاب الاستئصال لم يكن موجودا في الفترة المكية من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يشرع الجهاد إلا في المدينة ؛ أما في مكة فكانوا مأمورين بكف الأيدي عن القتال.
قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره لقوله تعالى:
( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) البقرة (190).
قال رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( وقاتلوا ) هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال .
ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله: ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )، وقوله: ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ )، وقوله : ( وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا )، وقوله: ( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ )، وما كان مثله مما نزل بمكة.
فلما هاجر إلى المدينة أمر بالقتال فنزل: ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) " انتهى. "تفسير القرطبي" (3 / 237).
فكان الكفار في الفترة المكية أشبه بالأقوام الذين عذبوا بعذاب الاستئصال ، حيث لم يكن المؤمنون حينئذ مأمورين بقتالهم، فناسب أن يواسي الله تعالى نبيه وينصره ، بأن يعرض عليه أن يعذب من كفر برسالته وسعى في إيذائه ، كما نصر الرسل السابقين كنوح وهود وصالح صلى الله عليهم وسلم.
والله أعلم.
تعليق