الحمد لله.
الأصل في المرأة أن تقرّ في بيتها، لكن إن كانت هناك حاجة مباحة أو منفعة لها أو للمجتمع المسلم فلا بأس من الخروج لها إذا التزمت بالضوابط الشرعية ، كما يبيّن ذلك واقع النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى الأحزاب/33 .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: " وقوله: ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ) أي: الزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة " انتهى . "تفسير ابن كثير" (6 / 409) .
عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: " خَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ لَيْلًا، فَرَآهَا عُمَرُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: إِنَّكِ وَاللَّهِ يَا سَوْدَةُ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، فَرَجَعَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، وَهُوَ فِي حُجْرَتِي يَتَعَشَّى، وَإِنَّ فِي يَدِهِ لَعَرْقًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَرُفِعَ عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ أَذِنَ اللَّهُ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَائِجِكُنَّ " رواه البخاري (5237) ، ومسلم (2170) .
قال ابن بطال رحمه الله تعالى:
" فى هذا الحديث دليل على جواز خروج النساء لكل ما أبيح لهن الخروج فيه من زيارة الآباء والأمهات وذوى المحارم والقرابات، وغير ذلك مما بهن الحاجة إليه، وذلك فى حكم خروجهن إلى المساجد " انتهى. "شرح صحيح البخاري" (7 / 364) .
لكن يكون خروجها لقضاء حاجتها -كعمل مباح نافع- من غير تبرّج، ولا اختلاط بالرجال الأجانب عنها، ولا اختلاء بأحدهم، ومع غض البصر وعدم الخضوع في القول، كما تنص الأدلة الشرعية؛ لأن أشد فتنة على الرجال هي النساء، كما يدل واقع البشر، ونصوص الوحي.
عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ رواه البخاري (5096) ، ومسلم (2740) .
فكل ما يؤدي إلى حصول هذه الفتنة يجب أن يجتنب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" والأصل أن كل ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز، فإن الذريعة إلى الفساد (يجب) سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة.
ولهذا كان النظر الذي قد يفضي إلى الفتنة محرما، إلا إذا كان لحاجة راجحة " انتهى من "مجموع الفتاوى" (15 / 419) .
ثانيا:
بناء على ما سبق؛ فإن عملك هذا لا يخرج عن حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون طلابك من الفتيات فلا شاب بينهم.
ففي هذه الحال لا بأس من تدريسك؛ لأن الأصل في الأعمال الإباحة، ولا يحرم منها إلا ماقام عليه الدليل، إذا التزمت بأحكام الشرع في مدخلك ومخرجك، وفي التعامل مع طاقم الإدارة إن كانوا من الرجال.
الحالة الثانية:
أن يكون طلابك من الشباب، أو خليط من الفتيات والشباب.
ففي هذه الحال؛ قيام المدرّسة الشّابة أمام هؤلاء الشباب -خاصة إن كانت تعتقد جواز كشف الوجه-، هو من أبواب الفساد التي يجب على المسلمة تجنبها، لأنه وسيلة غالبة أو محققة للنظر المحرم وما يجر إليه من فتن الشهوات.
فتدريسك في هذه الحالة يجتمع فيه تيقن ارتكاب أمور محرمة كالاختلاط والنظر والتعرض للفتنة ... من أجل مصلحة مظنونة وليست متيقنة ، وهي مصلحة إرشاد هؤلاء الطلاب وإنقاذهم من الاغترار بتلك المواد الدراسية .
فإن هذه المصلحة قد تحصل وقد لا تحصل ، ولا يجوز للمسلم أن يرتكب أمرا محرما من أجل مصلحة مظنونة .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
"لا ينتهك المحرم المتيقن لأمر مشكوك فيه " انتهى من "شرح منظومة أصول الفقه وقواعده" (ص 60) .
فتدريسك في هذه الحال تختلط به مفسدة النظر ، والاختلاط المحرم ، بمصلحة الإرشاد والتوجيه، والشرع يرشد في مثل هذه الأحوال إلى الموازنة بين جلب المصلحة ودفع المفسدة ، فيقدم الأغلب منهما.
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى:
" إذا اجتمعت مصالح ومفاسد، فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك، امتثالاً لأمر الله فيهما؛ لقوله - سبحانه -: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ).
وإن تعذر الدرء والتحصيل؛ فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة، ولا نبالي بفوت المصلحة، قال تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْـخَمْرِ وَالْـمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ). حرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما... " انتهى . "قواعد الأحكام"(1 / 136) .
وقال الشاطبي رحمه الله تعالى:
" المصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا : إنما تفهم على مقتضى ما غلب، فإذا كان الغالب جهة المصلحة، فهي المصلحة المفهومة عرفا، وإذا غلبت الجهة الأخرى، فهي المفسدة المفهومة عرفا، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبا إلى الجهة الراجحة، فإن رجحت المصلحة، فمطلوب، ويقال فيه: إنه مصلحة، وإذا غلبت جهة المفسدة، فمهروب عنه، ويقال: إنه مفسدة " انتهى من " الموافقات " (2 / 45) .
والذي يظهر لنا: أن مفسدة الاختلاط ، والنظر المحرم : مفسدة محققة الوقوع ، أو يغلب على الظن حدوثها.
وأما المصلحة المرجوة من تدريسك لهذه المادة، في الجامعات المختلطة: فهي موهومة، أو مظنونة. ولذلك: فإن دفع المفسدة الغالبة ، أو المحققة ، والتي تفضي إلى الفساد كثيرا ، مقدم على جلب مصلحة مظنونة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" وهذا أصل مستمر في أصول الشريعة كما قد بسطناه في قاعدة سد الذرائع وغيرها ، وبيّنا أن كل فعل أفضى إلى المحرم كثيرا كان سببا للشر والفساد، فإذا لم يكن فيه مصلحة راجحة شرعية، وكانت مفسدته راجحة، نهي عنه، بل كل سبب يفضي إلى الفساد نهي عنه إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، فكيف بما كثر إفضاؤه إلى الفساد " انتهى من "الفتاوى الكبرى"(4 / 465) .
فالحاصل؛ أن في مثل هذه الحالة الثانية؛ ينبغي عليك أن تعرضي عن هذا العمل، ثم تبحثين عن عمل يكون خاليا من مفاسد الاختلاط المحرم.
ونسأل الله الكريم أن يهدينا جميعا إلى ما يحبه ويرضاه.
والله أعلم.
تعليق