الخميس 20 جمادى الأولى 1446 - 21 نوفمبر 2024
العربية

أسباب تمرد الأبناء على الآباء وعلاجه

270306

تاريخ النشر : 29-08-2017

المشاهدات : 34181

السؤال

أريد أن أتحدث عن موضوع مهم ، ألا وهو عدم مراعاة الأبناء لظروف والدهم ، أنا عندي ٢٣ سنة ، ولدي اخوة ، ومن ضمنهم فتاة في عمر العشرين عاما ، ولكنها وللأسف لا تكترث لأمر والدي ، فوالدي في ضائقة مادية ، وهي تقول أريد كذا وكذا وكذا ، ولا علاقة لي به حتى لو اضطر لأن يطلب ذلك من الناس فلي حق عليه. ووالله والدي الآن في حالة يرثى لها من هم أبنائه ، والوضع الذي يعيشه ، فما رأيكم في هذا ؟ وبماذا تنصحون مثل هؤلاء الأبناء ؟ وهل هذا يندرج تحت العقوق أم له تفسيرات أخرى؟ علما أنها تسخط على والدي في كثير من المواقف ، ولا أدري كيف اتعامل معها.

الجواب

الحمد لله.

أولا :

اندفاعية الفتيات في التعامل مع الأبوين أو أحدهما وتمردهم وتسخطهم الدائم لا يخلو عادة عن أحد سببين : إما سبب شرعي إيماني ، وإما سبب نفسي سلوكي .

فأما السبب الشرعي الإيماني ، فمشكلته تتلخص في أمرين أيضا :

الأول : يتعلق بضعف أو تشوه تصور الأبناء لمنزلة الآباء في الإسلام ، وما يجب لهم من الحقوق .

 فعن أبي هريرة  رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال : ( لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ ، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ ) . رواه مسلم  (1510) .  

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الوَالِدِ ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ ) . رواه الترمذي 1899 وصححه الألباني .  

فمهما يكن من سوء تفاهم ، أو خلاف ، بين الولد ووالده : فلابد فيه من المصاحبة بالمعروف ، حتى ؛ بل ولو كان هذا الخلاف في أصل الدين وأساس رسالة المرسلين وجاهد فيه الوالد ولده على الإشراك بالله ؛ فليس ذلك بمانع أن يكون للوالد حقه على ولده ، وأن يحفظ له ولده ذلك الحق . قال تعالى : ( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) لقمان/14-15

والحاصل :

أن الحديث والنقاش مع الوالدين ليس كالحديث مع غيرهما ؛ ذلك بأننا مأمورون بخفض جناح الذل لهما ؛ بلين الكلام ، والتذلل في الملام ، وخفض الصوت عندهما ، وخشوع الجوارح أمامهما ، وعدم نهرهما بفعل ما يكرهاه ، أو التمنع عن مباح أحباه !

قال تعالى : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا  ) الإسراء/23-24

فشبه التواضع للوالدين والذل لهما بخفض الطائر الضعيف لجناحيه متذللا عند ما يعتريه خوف من طائر أشد منه .

عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) .

قَالَ: لَا تَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ !

رواه البخاري في ( الأدب المفرد ) تحت باب لين الكلام للوالدين ، وصححه الألباني .

وينظر للفائدة ، هذا المقال النافع :

http://www.saaid.net/Doat/alsakran/71.htm 

ثانيا :

من الأمور المهمة التي تسبب مثل هذه المشكلات التي ذكرت في السؤال : أن كثيرا من الأبناء لا يقبلون بالتعايش مع ظروفهم التي وجدوا أنفسهم فيها ، ولم يتربوا على الرضا بما قسمه الله لهم ، وقدره لهم من حظوظ الدنيا وأقدارها ، بل تراه دائما ينظر إلى من فضل عليه في الرزق ، ويطلب لنفسه مثل ما عند غيره ، من غير مقدرة عليه ، لا من نفسه ، ولا من أسرته ؛ فيدفعه ذلك دائما إلى التسخط على حاله ، والشكوى مما هو فيه ، وعدم الرضا بما قسم له .

وقد قال الله تعالى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) .

قال الشيخ السعدي رحمه الله :

" أي: لا تمد عينيك معجبا، ولا تكرر النظر مستحسنا إلى أحوال الدنيا والممتعين بها، من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء المجملة، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجابا بأبصار المعرضين، ويتمتع بها - بقطع النظر عن الآخرة - القوم الظالمون، ثم تذهب سريعا، وتمضي جميعا، وتقتل محبيها وعشاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة، ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا في القيامة، وإنما جعلها الله فتنة واختبارا، ليعلم من يقف عندها ويغتر بها، ومن هو أحسن عملا كما قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا) (وَرِزْقُ رَبِّكَ) : العاجل ، من العلم والإيمان وحقائق الأعمال الصالحة ، والآجل : من النعيم المقيم والعيش السليم في جوار الرب الرحيم = (خير) مما متعنا به أزواجا ، في ذاته وصفاته (وَأَبْقَى) ؛ لكونه لا ينقطع ، أكلها دائم وظلها ، كما قال تعالى (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) .

وفي هذه الآية إشارة إلى أن العبد إذا رأى من نفسه طموحا إلى زينة الدنيا ، وإقبالا عليها : أن يذكرها ما أمامها ، من رزق ربه ، وأن يوازن بين هذا وهذا " انتهى، من " تفسير السعدي" (516).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ - قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ - عَلَيْكُمْ.

رواه مسلم (2963) ، ومعناه في البخاري أيضا .

ثالثا :

ليعلم أن الأب مأمور شرعا بالنفقة على زوجه وأولاده على حسب سعته وقدرته ، لا على حسب متطلبات أولاده ورغباتهم ، ولا يحل للزوجة ولا الولد أن يطلبوا منه فوق ما يطيق ، وفوق ما يقدر عليه ؛ فإن الله تعالى لم يأمره بذلك ، بل على أسرته وأولاده أن يكيفوا أنفسهم ، ويحصروا طلباتهم واحتياجاتهم في حدود ما يملكه الأب ، ويقدر عليه ، ولا يحل لهم أن يؤذوه ، ولا أن يكلفوه فوق ما يطيق ، ولا أن يشعروه بتقصيره ، أو نقص ما هم عليه من الحال ، أو عدم تقديرهم لما يأتيهم به ، أو ينفقه عليهم .  

قال تعالى : ( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى * لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ) الطلاق/6-7

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره :

" (مِنْ وُجْدِكُمْ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي سَعَتكم .

وَقَوْلُهُ: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أَيْ: لِيُنْفِقْ عَلَى الْمَوْلُودِ وَالِدُهُ، أَوْ وَلِيُّهُ، بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ .

(وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا) كَقَوْلِهِ: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) [الْبَقَرَةِ: 286] . " انتهى .  

 رابعا :

وأما السبب النفسي السلوكي فيتعلق باندفاعية مرضية pathological impulsivity يغلب على الفتاة عدم القدرة على التحكم بها ، وهذه الاندفاعية تظهر عادة مع اضطرابات التوتر والقلق Anxiety & Stress disorders  ، وتظهر كذلك بشكل أوضح مع اضطراب الشخصية الحدية Borderline personality disorder

فإذا لم تفلح الموعظة ، والتربية الإيمانية ، والتعليم والتأديب مع أختكم ، ولم تقف عند الحد الواجب عليه من الأدب مع الوالد ، وعدم إرهاقه بمتطلباتها ، ورغباتها : فننصح باستشارة طبيبة نفسية لتقييم حالتها ، والنظر في سبب هذه العصبية والاندفاعية التي تظهر منها ، وذلك لأهمية العلاج الدوائي بمضادات التوتر والقلق ، بجانب العلاج الكلامي بجلسات العلاج المعرفي السلوكي   CBTفي حالة اضطراب التوتر والقلق ، أو جلسات العلاج الجدلي السلوكي  DBT في حالة اضطراب الشخصية الحدية  .

 والله أعلم

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب