الحمد لله.
أولا:
هذا الحديث ليس له أصل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما نعلم ، ولم نقف له على إسناد ، ولا ذكر في شيء من الكتب المعتمدة المسندة . فلا يصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وغاية ما وقفنا على ذكره ، عند الطبري في تاريخه ، بصيغة "قالوا" ، ولم يذكر له إسنادا .
قال الطبري رحمه الله تعالى:
" قالوا: وكان كتابه -أي عثمان - إلى العامة: أما بعد، فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالاقتداء والاتباع، فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم، فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الكفر في العجمة )، فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا " انتهى. "تاريخ الطبري" (4 / 245).
ثانيا:
هذا المعنى المذكور: له وجه صحيح، في الجملة ، وقد قرره أهل العلم في كتبهم، وتشهد له الوقائع على مرّ التاريخ .
فالعجمة: هي عدم وضوح الشيء.
قال الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى:
" العُجْمَةُ: خلاف الإبانة، والإِعْجَامُ: الإبهام " انتهى. " المفردات" (ص 549).
والمعنى: أن غير العربي الذي لم يتقن العربية كأهلها العالمين بها، ربما مرّ عليه من نصوص الوحي ما لا يستطيع فهمه ولا تبين معناه ، فيتأوله ويفسره من قبل نفسه ، تفسيرا باطلا، من غير علم منه بوجهه الصحيح ، وبيانه ، وهذا سبب من أعظم أسباب الابتداع في الدين ، وتغيير معالمه .
وليس المراد بالعجمة هنا : عجمة النسب ، وأن يكون الرجل من غير أنساب العرب ؛ فكم من أهل العلم والديانة من كان أعجمي الأصل ، إمام في العلم بلغة العرب ، فقيها في دين الله تعالى؛ وإنما المراد بذلك : عجمة اللسان ، وعدم فقهه ، والجهر بتفسير كلام الله تعالى ، وكلام نبيه ، وخفاء وجوه البيان ، وأساليب كلام العرب ، ووجوه لغاتها .
قال الشافعي رحمه الله تعالى:
" وإنما بدأت بما وصفتُ، من أن القُرَآن نزل بلسان العرب دون غيره: لأنه لا يعلم مِن إيضاح جُمَل عِلْم الكتاب أحد، جهِل سَعَة لسان العرب، وكثرةَ وجوهه، وجِماعَ معانيه، وتفرقَها. ومن علِمه انتفَتْ عنه الشُّبَه التي دخلَتْ على من جهِل لسانَها ...
فإنما خاطب الله بكتابه العربَ بلسانها، على ما تَعْرِف مِن معانيها، وكان مما تعرف من معانيها: اتساعُ لسانها، وأنَّ فِطْرَتَه أنْ يخاطِبَ بالشيء منه عامًّا ظاهِرًا يُراد به العام الظاهر، ويُسْتغنى بأوَّل هذا منه عن آخِرِه. وعاماً ظاهراً يراد به العام ويَدْخُلُه الخاصُّ، فيُسْتَدلُّ على هذا ببَعْض ما خوطِبَ به فيه؛ وعاماً ظاهراً يُراد به الخاص. وظاهراً يُعْرَف في سِياقه أنَّه يُراد به غيرُ ظاهره. فكلُّ هذا موجود عِلْمُه في أول الكلام، أوْ وَسَطِهِ، أو آخِرَه.
وتَبْتَدِئ الشيءَ من كلامها يُبِينُ أوَّلُ لفظها فيه عن آخره. وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظِها منه عن أوَّلِهِ.
وتكلَّمُ بالشيء تُعَرِّفُه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ، كما تعرِّف الإشارةُ، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به، دون أهل جَهَالتها.
وتسمِّي الشيءَ الواحد بالأسماء الكثيرة، وتُسمي بالاسم الواحد المعانيَ الكثيرة.
وكانت هذه الوجوه التي وصفْتُ اجتماعَها في معرفة أهل العلم منها به - وإن اختلفت أسباب معرفتها -: مَعْرِفةً واضحة عندها، ومستَنكَراً عند غيرها، ممن جَهِل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتابُ، وجاءت السنة، فتكلَّف القولَ في علمِها تكلُّفَ ما يَجْهَلُ بعضَه.
ومن تكَلَّفَ ما جهِل، وما لم تُثْبِتْه معرفته: كانت موافقته للصواب - إنْ وافقه من حيث لا يعرفه - غيرَ مَحْمُودة، والله أعلم؛ وكان بِخَطَئِه غيرَ مَعذورٍ، إذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بيْن الخطأ والصواب فيه " انتهى. "الرسالة" (ص 47 - 53).
فمن جهل لغة العرب، خفيت عليه معاني نصوص الوحي؛ فإذا لم يرجع إلى أهل العلم ، واكتفى بعقله : وقع في الضلال؛ وهذا كان أحد أهم أسباب ظهور المبتدعة من خوارج ومعتزلة وغيرهم.
قال السيوطي رحمه الله تعالى:
" وقد وجدت السلف قبل الشافعي أشاروا إلى ما أشار إليه من أن سبب الابتداع الجهل بلسان العرب ...
وأخرج البخاري في تاريخه الكبير عن الحسن البصري، قال: إنما أهلكتهم – أي أصحاب البدع- العجمة " انتهى. "صون المنطق" (ص 55 - 56).
وقال الشاطبي رحمه الله تعالى:
" ومنها – أهل البدع - تخرصهم على الكلام في القرآن والسنة العربيين، مع العُرُوِّ عن علم العربية الذي به يفهم عن الله ورسوله، فيفتاتون على الشريعة بما فهموا، ويدينون به، ويخالفون الراسخين في العلم، وإنما دخلوا في ذلك من جهة تحسين الظن بأنفسهم، واعتقادهم أنهم من أهل الاجتهاد والاستنباط، وليسوا كذلك ...
وكثيرا ما يوقع الجهل بكلام العرب في مخاز لا يرضى بها عاقل، أعاذنا الله من الجهل والعمل به بفضله.
فمثل هذه الاستدلالات لا يعبأ بها، وتسقط مكالمة أصحابها، ولا يعد خلاف أمثالهم خلافا.
فكل ما استدلوا عليه من الأحكام الفروعية أو الأصولية فهو عين البدعة، إذ هو خروج عن طريقة كلام العرب إلى اتباع الهوى " انتهى. "الاعتصام" (2 / 47 - 50).
والله أعلم.
تعليق