الحمد لله.
أولاً:
روى مسلم (218) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ قَالُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ ، وَلَا يَكْتَوُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ .
ومعنى (يسترقون) : يطلبون من غيرهم أن يرقيهم .
وعلى ذلك: فمن طلب الرقية من غيره فإنه يخرج من السبعين ألفا الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ومثله من طلب من شخص أن يقرأ له في ماء ليستشفي به ، فإنه يعتبر طالبا للرقية .
لكن إذا أُعطِي ماء بغير طلب منه فإنه بمنزلة الذي يُرقى بغير طلب منه، فحتى، على هذا القول في تفسير "يسترقون": فإنه لا يخرج من السبعين ألفا ، وقد رُقي النبي صلى الله عليه وسلم بغير طلب منه ، فلم يزجر الراقي أو يمنعه ، فكان هذا دليلا على أنه لا ينقص عن درجة الكمال .
روى البخاري (5735)، ومسلم (2192) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي المَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا" .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"الإنسان إذا أتاه من يرقيه ولم يمنعه ؛ فإنه لا ينافي قوله: ( ولا يسترقون ) ؛ لأن هناك ثلاث مراتب :
المرتبة الأولى : أن يطلب من يرقيه ، وهذا قد فاته الكمال.
المرتبة الثانية: أن لا يمنع من يرقيه ، وهذا لم يفته الكمال؛ لأنه لم يسترق ولم يطلب.
المرتبة الثالثة : أن يمنع من يرقيه , وهذا خلاف السنة ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع عائشة أن ترقيه ، وكذلك الصحابة لم يمنعوا أحدا أن يرقيهم ؛ لأن هذا لا يؤثر في التوكل " انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (9/ 99) .
وينظر جواب السؤال: (132384)، (217325).
وقيل: إن معنى "يسترقون" هنا: أي لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم برقى الجاهلية، (ولا يرقون): هم أيضا، غيرهم بهذه الرقية؛ بل إن رقَوا أنفسهم، أو رقوا غيرهم، أو طلبوا من غيرهم الرقية: فإنهم لا يخرجون في ذلك كله عن الرقية الشرعية المأذون فيها، إلى رقى أهل الجاهلية الممنوعة.
روى مسلم في صحيحه (2200) عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، قَالَ: "كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ فَقَالَ: )اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ(
فهذا الحديث يدل على جواز الرقى ، ما لم يكن بها شرك ، وما لم تكن ذريعة للشرك .
ولعل هذا هو الأقرب في معنى "يسترقون" في هذا الحديث.
نقل ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (9/ 405) عن أبي الحسن بن القابسي أنه قال : " معنى ( لا يسترقون ) يريد الاسترقاء الذي كانوا يسترقونه في الجاهلية عند كهانهم، وهو استرقاء لما ليس في كتاب الله ، ولا بأسمائه وصفاته ، وإنما هو ضرب من السحر ، فأما الاسترقاء بكتاب الله والتعوذ بأسمائه وكلماته فقد فعله الرسول وأمر به ، ولا يخرج ذلك من التوكل على الله ، ولا يرجى في التشفي به إلا رضا الله ". انتهى.
وعلى هذا التفسير، فهو أولى بألا يحرم من فضيلة السبعين ألفا، إذا شرب الماء المقروء عليه؛ بل، وإن طلبه، أيضا.
ثانيا:
التقديس هو التطهير والتنزيه ، سواء التطهير الحسي أو المعنوي أو هما معا .
قال ابن فارس "وَمِنْ ذَلِكَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ هِيَ الْمُطَهَّرَةُ. وَتُسَمَّى الْجَنَّةُ حَظِيرَةَ الْقُدْسِ، أَيِ الطُّهْرِ. وَجَبْرَئِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رُوحُ الْقُدُسِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ وَاحِدٌ.
وَفِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى: الْقُدُّوسُ، وَهُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ، وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا" انتهى من "مقاييس اللغة" (5/64) .
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (11157)، ورقم: (176046)، ورقم: (516927).
والله أعلم.
تعليق