الحمد لله.
روى البخاري في صحيحه (7068).عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الحَجَّاجِ، فَقَالَ: ( اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ. سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) .
وهذا الحديث يثبت أن كل زمان بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيه من الشر أكثر من الزمن الذي سبقه .
وفي مقابل هذا : صحّ أنه بعض الأزمان كان يظهر فيها من الشر أقل من الزمن الذي سبقها، كعهد خلافة عمر بن عبد العزيز مقارنة بالفترة التي سبقته والتي شهدت إمارة الحجاج وما كان فيها من الظلم. وكذلك ما أخبر به الوحي عن فترة المهدي في آخر الزمان، فهي خير من الفترة التي تسبقها.
وقد أجاب أهل العلم عن هذا الإشكال بما حاصله:
أن هذا نص عام، ولا يمنع هذا من وجود أزمان مخصوصة من هذا العموم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وقد حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب، فسئل عن وجود عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج فقال لا بد للناس من تنفيس " انتهى، من "فتح الباري" (13 / 21).
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" إن قال قائل: ما وجه هذا ونحن نعلم أنه جاء بعد الحجاج عمر ابن عبد العزيز، فبسط العدل وصلح الزمان؟ فالجواب: أن الكلام خرج على الغالب، فكل عام تموت سنة وتحيا بدعة، ويقل العلم، ويكثر الجهال، ويضعف اليقين، وما يأتي من الزمان الممدوح نادر قليل " انتهى، من "كشف المشكل" (3 / 295).
وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
" فهذا الحديث ينبغي أن يفهم على ضوء الأحاديث المتقدمة وغيرها؛ مثل أحاديث
المهدي، ونزول عيسى عليه السلام؛ فإنها تدل على أن هذا الحديث ليس على عمومه؛
بل هو من العام المخصوص، فلا يجوز إفهام الناس أنه على عمومه، فيقعوا في
اليأس الذي لا يصح أن يتصف به المؤمن؛ ( إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ).
أسأل الله أن يجعلنا مؤمنين به حقا " انتهى، من "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1 / 36).
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
" أما حديث: لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه : فهو محمول على الأغلب ؛ فلا يمنع أن يكون في بعض الزمان أحسن مما قبله، كما جرى في زمان عمر بن عبد العزيز ؛ فإن زمانه أحسن من زمان سليمان والوليد، وكما حصل في زمان شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من ظهور السنة والرد على المبتدعة، وكما جرى في الجزيرة بعد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. " انتهى، من "مجموع فتاوى ابن باز" (25/104) .
وقيل : إن نسبة الشر ينظر إليها من خلال مجموع العصر، وليس بالنظر إلى بلدة أو جماعة معينة ونحو هذا.
فمجموع عصر الحجاج ابن يوسف ، وإن كان فيه شر وظلم ، فهو خير من مجموع عصر عمر بن عبد العزيز وإن عرف بالعدل، لأن عصر الحجاج من ضمن عصر الصحابة، حيث عاش فيه عدد منهم كعبد الله بن عمر بالخطاب وأنس بن مالك رضوان الله عليهم أجمعين، أما عصر عمر بن عبد العزيز فقد خلا من الصحابة.
والعصر الذي وجدت فيه الدولة الفاطمية فإن مجموع ذلك العصر خير من الذي بعده، فذلك العصر كان فيه من أهل العلم والصالحين الذين يتعلم منهم الناس ، ويقتدون بهم : من لم يوجد مثلهم فيما جاء بعد ذلك من الأعصار، فذهب بذهابهم خير كثير.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وأجاب بعضهم أن المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر ؛ فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء ، وفي عصر عمر بن عبد العزيز انقرضوا، والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده ، لقوله صلى الله عليه وسلم خير القرون قرني وهو في الصحيحين " انتهى، من "فتح الباري" (13 / 21).
وقال أحمد بن إسماعيل الكوراني رحمه الله تعالى:
" وعندي أن المراد من الزمان ليس نفس الزمان وذلك ظاهر، ولا الأمراء وأرباب الولايات، ولا كل فرد من أفراد الناس، بل الغالب كما أشار إليه بقوله: ( خير القرون قرني ) فإنه أراد الغالب ... في كل قرن كان يزداد من ظهور الزنى وشرب الخمر وأنواع البدع .
والإنسان إذا تأمل من أول عمره إلى آخره يرى تفاوتًا ظاهر في الناس، فإن الغالب فيما رآهم في أول عمره : خير من الذين رآهم آخره " انتهى، من "الكوثر الجاري" (11 / 14).
والله أعلم.
تعليق