الحمد لله.
جماهير أهل العلم، على أن من حق الزوجة فسخَ عقد النكاح إن وجدت في زوجها عيبا يؤثّر في العشرة ويلحق بها ضررا، لكن اختلفوا في تحديد هذه العيوب التي يُشرع معها الفسخ على رأيين:
الرأي الأول:
وعليه جمهور أهل العلم من المذاهب الأربعة، هو أن ليس كل عيب يشرع معه فسخ النكاح، وحكوا الإجماع على هذا.
قال الماوردي رحمه الله تعالى: " إجماعهم: على أن لا يفسخ بكل العيوب" انتهى. "الحاوي الكبير" (9 / 338).
وإنما رأوا أنّ هناك عيوبا محددة، يشرع عند وجودها فسخ عقد الزواج.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" فاختلف الفقهاء في ذلك، فقال داود وابن حزم ومن وافقهما: لا يفسخ النكاح بعيب البتة، وقال أبو حنيفة: لا يفسخ إلا بالجَبِّ والعُنة خاصة.
وقال الشافعي ومالك: يفسخ بالجنون والجذام والبرص والقرن والجب والعنة خاصة، وزاد الإمام أحمد عليهما: أن تكون المرأة فتقاء منخرقة ما بين السبيلين.
ولأصحابه في نتن الفم والفرج وانخراق مخرجي البول والمني في الفرج، والقروح السيالة فيه، والباسور والناصور والاستحاضة، واستطلاق البول أو النجو، والخصاء وهو قطع البيضتين، أو السل وهو سل البيضتين، والوجأ وهو رضهما، وكون أحدهما خنثى مشكلا، والعيب الذي بصاحبه مثله من العيوب السَّبعة، والعيب الحادث بعد العقد= وجهان. انتهى. "زاد المعاد" (5 / 255).
وعلى مذهب الجمهور هذا، فإن مجرد قطع أصبع، لا يُعدُّ عندهم من العيوب التي يفسخ بها النكاح، فقد نفوا الخلاف في عدم الفسخ بقطع اليد، فكيف بمجرد أصبع؟!
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" … وما عدا هذه فلا يثبت الخيار، وجها واحدا، كالقَرَع، والعمى، والعرج، وقطع اليدين والرِّجْلين؛ لأنّه لا يمنع الاستمتاع، ولا يخشى تعدّيه. ولا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافا " انتهى. "المغني" (10 / 59).
وذهب طائفة من أهل العلم إلى أنّ هذه العيوب يفسخ بها النكاح إما لأن مقصود النكاح لا يتحقق بوجودها، أو لفوات تمام الاستمتاع، أو لدفع ضرر، فرأوا أن العدل والحكمة يقتضيان أن يلحق بها كل عيب يشابه هذه العيوب، أو يكون أشد منها، إما في خشية الضرر منه، أو إيقاع النفرة بين الزوجين، أو تفويت كمال الاستمتاع والألفة بينهما.
قال ابن العربي رحمه الله تعالى:
" المقصود من النّكاح الألفة والاستمتاع، وهذه العيوب كلّها تنفي الألفة، وتفوّت الاستمتاع وكماله، وأيّ استمتاع في المذبولة؛ إنّ القرناء لأقرب إلى اللّذّة منها. وليس سكوت مالك عن مسألة يوجب أن تكون خلاف ما تكلّم عليها، بل يلحق النّظير بالنّظير، ويحمل المثل على المثل، وأيّها أبعد عند النّظر في الدّليل والرّدّ، السّوداء أم العمياء؟ فهذه المعاني إنّما تبنى على ملاحظة المقصود … " انتهى. "المسالك في شرح موطأ مالك" (5 / 464).
وقال ابن القيم، رحمه الله:
" والقياس أنّ كلّ عيب ينفّر الزّوج الآخر منه، ولا يحصل به مقصود النّكاح، من الرّحمة والمودّة يوجب الخيار، وهو أولى من البيع، كما أنّ الشّروط المشترطة في النّكاح أولى بالوفاء من شروط البيع. وما ألزم اللّه ورسوله مغرورا قطّ، ولا مغبونا: بما غُرّ به، وغُبِن به.
ومن تدبّر مقاصد الشّرع في مصادره وموارده، وعدله وحكمته، وما اشتمل عليه من المصالح: لم يَخْفَ عليه رجحانُ هذا القول، وقربه من قواعد الشّريعة " انتهى. "زاد المعاد" (5/ 257).
وقطع الأصبع: عيب صغير، يحتمل مثله، فلا هو من العيوب الكبار التي نص عليها الفقهاء، ولا هو لاحق بها في الشين، أو تفويت كمال الاستمتاع، ودوام العشرة والألفة.
وقد حكي الإجماعَ على عدم فسخ النكاح بالعيوب الصغيرة.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" أجمعوا على أنّ النّكاح لا تردّ فيه المرأة بعيب صغير، خلاف البيوع "انتهى. "الاستذكار" (16 / 98)، وحكاه ابن القطان في "الإقناع في مسائل الإجماع" (2 / 29).
الرأي الثاني:
قال أصحابه: إن النكاح يمكن فسخه بكل عيب يردّ به البيع.
قال شمس الدين الزركشي، الحنبلي، رحمه الله تعالى:
" وعن أبي البقاء العُكْبُري: ثبوت الخيار بكل عيب يرد به في البيع، وهو غريب " انتهى. "شرح الزركشي على مختصر الخرقي" (5 / 245).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وذهب بعض أصحاب الشّافعيّ: إلى ردّ المرأة بكلّ عيب تردّ به الجارية في البيع، وأكثرهم لا يعرف هذا الوجه، ولا مَظِنّته، ولا من قاله. وممّن حكاه أبو عاصم العباداني في كتاب "طبقات أصحاب الشّافعيّ"، وهذا القول هو القياس …" انتهى. "زاد المعاد" (5 / 256).
ومن اشترى عبدا فوجده مقطوع الأصبع: جاز رده؛ لأن هذا القطع يؤثر في قيمته، وينقص من ثمنه.
فعلى هذا القول: فإنه يجوز للزوجة أن تفسخ النكاح، إن وجدت زوجها مقطوع الأصبع.
لكن يُشكِل على هذا الرأي أمران.
الأمر الأول: أن النكاح لا يمكن قياسه في هذا الجانب على كل ما في البيع، بل هناك فرق بينهما.
قال ابن المنذر رحمه الله تعالى:
" فرقت السنة بين النكاح وبين البيوع: في أن الحرة لا يُتبرأ من عيوبها، كما يُتبرأ من عيوب الإماء، وأن نكاح الحرة جائز، وإن لم توصف وتُر، وليس كذلك شرى الإماء" انتهى. "الأوسط" (8 / 427).
وقال الماوردي رحمه الله تعالى:
"فأما استدلالهم بأنه إما أن يفسخ بكل العيوب كالبيوع، أو لا يفسخ بشيء منها كالهبات.
فالجواب عنه: إنه بالبيوع أخص، لأنهما عقدا معاوضة، غير أن جميع العيوب تؤثر في نقصان الثمن، فاستحق بجميعها الفسخ، وليس كل العيوب تؤثر في نقصان الاستمتاع، فلم يستحق بجميعها الفسخ " انتهى. "الحاوي الكبير" (9 / 340).
الأمر الثاني:
إطلاق هذا القول؛ يلزم منه أنه يشرع للمرأة مفارقة زوجها بوجود عيب يرد بمثله في البيع، ولو لم يكن ذلك مؤثرا في العشرة بينهما أو في كمال استمتاعهما، ولم تنفر هي منه في خاصة نفسها، إنما تعللت بالعيب، لتفسخ النكاح، لمقصد آخر لها من الفسخ.
والنهي قد ورد عن طلب المرأة الفراق في غير ما بأس، وقد سبق بيانه في جواب السؤال رقم: (284365).
وعرف الناس قائم على المسامحة والمكارمة في مثل هذا العيب الصغير في الرجل، فلا يظهر في وجود هذا النقص الصغير غبن ولا غرر، وهي لم تحتط لنفسها باشتراط أمر يخصها هي؛ فهي المفرطة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" والشرط إنما يثبت لفظا أو عرفا، وفي البيع دل العرف على أنه لم يرض إلا بسليم من العيوب، وكذلك في النكاح لم يرض بمن لا يمكن وطؤها، والعيب الذي يمنع كمال الوطء – لا أصله – فيه قولان في مذهب أحمد وغيره، وأما ما يمكن معه الوطء وكمال الوطء فلا تنضبط فيه أغراض الناس …
أما إذا عرف أنه لم يرض لاشتراطه صفة، فبانت بخلافها، وبالعكس: فإلزامه بما لم يرض به مخالف للأصول.
ولو قال: ظننتها أحسن مما هي، أو ما ظننت فيها هذا ونحو ذلك؛ كان هو المفرط حيث لم يسأل عن ذلك ولم يرها، ولا أرسل من رآها " انتهى. "مجموع الفتاوى" (29 / 354 – 355).
ويتأيد هذا بما حكي من إجماع على عدم الفسخ بالعيوب الصغيرة، كما سبق ذكره.
والخلاصة:
الراجح أن كون الزوج مقطوع الأصبع لا يعدّ عيبا يفسخ به النكاح، إذا لم تشترط المرأة خلوه من هذا العيب.
لكن إن وجدت المرأة قلبها نافرا عن هذا الزوج، ووجدت مشقة في البقاء معه، وطاعته، فلها أن تطلب الخلع منه، وقد سبق بيانه في جواب السؤال رقم: (26247).
وفي الخلع: له أن يطلب كل ما أعطاك، وأنفق عليه من أجل النكاح، وفات مقصوده منه.
وينظر: جواب السؤال رقم: (259434)، ورقم: (401144).
والله أعلم.
تعليق