الحمد لله.
أولا:
عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: " كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ، فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا " رواه ابن ماجه (61)، وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" (1 / 37 - 38).
قال السندي رحمه الله تعالى:
" ( حَزَاوِرَةٌ ) جمع الحَزْوَر، ويقال له: الحزور بتشديد الواو ؛ هو الغلام إذا اشتد وقوي وحَزُم . كذا في الصحاح، وفي النهاية: هو الذي قارب البلوغ قوله: (فازددنا به) أي بسبب القرآن " انتهى، من "حاشية السندي" (1 / 31).
ثانيا:
وأما كيفية تعلم الإيمان قبل القرآن؛ فالمقصود به : التربية على أصول الإيمان ، وتعلم معانيه ، تعلما عمليا من النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحواله ، وأفعاله ، وتلقيا من سنته ، وتعليمه لهم ، وتأديبه إياهم بأدب الدين ؛ فيتحصل لهم معرفة بمعاني القرآن ، الذي يتعلمون ألفاظه بعد ذلك ، وتربية على أحوال النبي صلى الله عليه ، وتأدب بأدبه الشريف ، وهو كله من أدب القرآن ، وخلقه ؛ فيحصل لهم علم "مجمل" بمعاني القرآن ، قبل أن يحصل لهم ، أو لمن شاء الله منهم : العلم المفصل بتعلم حروفه وكلماته .
وقد لخّص هذا الحال؛ ابن عمر رضي الله عنه لمّا قال: " لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا وَإِنَّ أَحْدَثَنَا يُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ فِيهَا كَمَا تَعْلَمُونَ أَنْتُمُ الْقُرْآنَ ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَا يَدْرِي مَا أَمْرُهُ وَلَا زَاجِرُهُ، وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ يَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ " رواه الحاكم في "المستدرك" (1 / 35)، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً "، ووافقه الذهبي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" والله سبحانه هو رب كل شيء ومليكه وهو معلم كل علم وواهبه فكما أن نفسه أصل لكل شيء موجود ؛ فذكره والعلم به : أصل لكل علم ، وذكره في القلب.
والقرآن يعطي العلم المفصل ، فيزيد الإيمان ، كما قال " جندب بن عبد الله البجلي " وغيره من الصحابة: " تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا " " انتهى ، من "مجموع الفتاوى" (4/38) .
وقال أيضا :
" التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول أن يفرغ قلبه مما لا يحبه الله ويملأه بما يحبه الله، فيفرغه من عبادة غير الله ويملؤه بعبادة الله وكذلك يفرغه عن محبة غير الله ويملؤه بمحبة الله وكذلك يخرج عنه خوف غير الله ويدخل فيه خوف الله تعالى، وينفي عنه التوكل على غير الله ويثبت فيه التوكل على الله. وهذا هو الإسلام المتضمن للإيمان الذي يمده القرآن ويقويه لا يناقضه وينافيه كما قال جندب وابن عمر: " تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا "." انتهى، من "مجموع الفتاوى" (10/401) .
وقال أيضا :
" الصحابة أخذوا عن الرسول لفظَ القرآن ومعناه، بل كانوا يأخذون عنه المعاني مجردةً عن ألفاظِه بألفاظٍ أُخَر، كما قال جُندب بن عبد الله البَجَلي وعبد الله بن عمر: تعلَّمنا الإيمانَ ثم تعلَّمنا القرآن، فازددنا إيمانًا. فكان يُعلِّمهم الإيمانَ، وهو المعاني التي نزل بها القرآن من المأمور به والمخبَر عنه المتلقَّى بالطاعة والتصديق، وهذا حق، فإن حفاظ القرآن كانوا أقلَّ من عموم المؤمنين " انتهى ، من "جواب الاعتراضات المصرية" (12) .
وتعلّم الصحابة للإيمان قبل استكثارهم من الحفظ ، ساهم فيه أنّ أسس الإيمان مبثوثة في سور المفصّل؛ ولذا سمى ابن مسعود رضي الله عنه سور المفصّل بلباب القرآن.
فعن عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قالت: " إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ ، نَزَلَ الحَلاَلُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لاَ تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لاَ تَزْنُوا، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: ( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ) وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ " رواه البخاري (4993).
فالحاصل؛ أنّ الإيمان قبل القرآن؛ يتحصّل بأن يربّي المؤمن نفسه على العقائد والشرائع التي جاء بها القرآن؛ ويأخذ ذلك بعزيمة وقوة؛ فإذا شرع بعد ذلك في الإستكثار من حفظ آيات القرآن؛ حفظه وهو يشعر أنه مخاطب بها؛ فيتمعن ويتدبر فيما يحفظ ويخاف أن يكون حجة عليه فيسارع للامتثال بما حفظ.
والله أعلم.
تعليق