الحمد لله.
أولا:
معتقد أهل السنة والجماعة إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد يقع خلاف في فهم نص من النصوص: هل هو من نصوص الصفات أم لا؟ أو يختلف في المراد باللفظة الواردة، بحسب السياق، فإن الظاهر هو ما دل عليه اللفظ بحسب السياق الوارد فيه.
ومن ذلك: الهرولة، فهل هي هرولة حقيقية، أم معنوية بمعنى سرعة الإثابة؟
ولعل الأقرب هو الثاني. لأن ظاهر اللفظ في حق المخلوق لا يفهم منه المشي الحقيقي، فكيف يفهم منه ذلك في حق الله؟
ونص الحديث القدسي: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً رواه البخاري (7405) ، ومسلم (2675).
فليس المراد مشي العبد على قدميه إلى الله، ولا التقرب شبرا أو ذراعا بالمسافة.
هذا هو المتبادر من السياق، وهذا يعني أن التقرب هنا من العبد بالطاعة، والتقرب من الله بالإثابة.
وهذا لا يُعد من التأويل الباطل المخالف لطريق السلف الصالح ؛ بصرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه ، لغير قرينة ودليل يوجبه ؛ بل هنا إعمال للظاهر المتبادر للذهن بحسب السياق.
أو يقال هو تأويل صحيح لوجود القرينة الحسية العقلية الظاهرة ، وهي أن الطرف الآخر (الإنسان) لا يتقرب بالمسافة، وهو يعلم ذلك من نفسه.
مع أن حمل الحديث على الهرولة الحقيقية ليس محالا، وقد قال به جماعة من أهل العلم، لكنه ليس ظاهر السياق .
وسيأتي أن الله تعالى قد ثبت له المجيء والإتيان والنزول والدنو، فليس عدم إثبات الهرولة هنا على معناها الحقيقي لأن الحركة مستحيلة على الله كما يقوله المتكلمون، بل لأن السياق لا يدل عليها، فيما يظهر لنا.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام مهم في هذه المسألة، في رده على الرازي حيث أدرج هذا الحديث ضمن ما يؤول.
قال رحمه الله: " فصل: قال الرازي: الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (من أتاني يمشي أتيته هرولة) ولا يشك كل عاقل أن المراد منه التمثيل والتصوير.
يقال له: هذا الحديث لفظه في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ومن تقرَّب إلي شبرًا ، تقربت إليه ذراعًا ، ومن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة).
ولا ريب أن الله تعالى جعل تقربه من عبده ، جزاء لتقرب عبده إليه؛ لأن الثواب أبدًا من جنس العمل، كما قال في أوله: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وقال: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس)، وقال تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد 7]، وقال: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) [النساء 149]، وقال: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) [النور 22].
....
ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله بحركة بدنه شبرًا وذراعًا ومشيًا وهرولة .
لكن قد يقال: عدم ظهور هذا هو للقرينة الحسية العقلية، وهو أن العبد يعلم أن تقربه ليس على هذا الوجه، وذلك لا يمنع أن يكون ظاهر اللفظ متروكًا.
يقال: هذه القرينة الحسية الظاهرة لكل أحد، هي أبلغ من القرينة اللفظية، فيكون معنى الخطاب ما ظهر بها، لا ما ظهر بدونها.
فقد تنازع الناس في مثل هذه القرينة المقترنة باللفظ العام ، هل هي من باب التخصيصات المتصلة أو المنفصلة .
وعلى التقديرين فالمتكلَّم الذي ظهر معناه بها ، لم يُضِل المخاطب، ولم يلبس عليه المعنى، بل هو مخاطب له بأحسن البيان ..." انتهى من "بيان تلبيس الجهمية" (6/ 101- 105).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "، والقول بأن العقيدة ليس فيها خلاف على الإطلاق غير صحيح، فإنه يوجد من مسائل العقيدة ما يعمل فيه الإنسان بالظن.
فمثلا في قوله تعالى في الحديث القدسي: (من تقرب إلى شبرا تقربت منه ذارعا)، لا يجزم الإنسان بان المراد بالقرب القرب الحسي، فإن الإنسان لا شك أنه ينقدح في ذهنه أن المراد بذلك القرب المعنوي.
وقوله تعالى: (من أتاني يمشي أتيته هرولة) هذا أيضاً لا يجزم الإنسان بأن الله يمشي مشيا حقيقيا هرولة، فقد ينقدح في الذهن أن المراد الإسراع في إثابته، وأن الله تعالى إلى الإثابة أسرع من الإنسان إلى العمل .
ولهذا اختلف علماء أهل السنة في هذه المسألة، بل إنك إذا قلت بهذا أو هذا ، فلست تتيقنه كما تتيقن نزول الله عز وجل، الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) فهذا ليس عند الإنسان شك في أنه نزول حقيقي، وكما في قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) فلا يشك إنسان أنه استواء حقيقي" انتهى من "شرح العقيدة السفارينية" (1/ 307).
وقال رحمه الله بعد بسط للكلام على هذه المسألة وتقرير أن الهرولة صفة ثابتة: "وخلاصة القول: أن إبقاء النص على ظاهره أولى وأسلم فيما أراه، ولو ذهب ذاهب إلى تأويله لظهور القرينة عنده في ذلك لوسعه الأمر لاحتماله" انتهى من "مجموع فتاو ابن عثيمين" (1/ 193).
فهذا الذي يظهر بشأن الهرولة، مع إثبات ما دلت عليه النصوص من النزول إلى السماء الدنيا كل ليلة، والدنو من الخلق يوم عرفة، والمجيء والإتيان يوم القيامة.
قال شيخ الإسلام في شرح حديث النزول: " وأما دنوه نفسه وتقربه من بعض عباده؛ فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه ومجيئه يوم القيامة ونزوله واستوائه على العرش.
وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر. وأول من أنكر هذا في الإسلام " الجهمية " ومن وافقهم من المعتزلة" انتهى من "مجموع الفتاوى" (5/ 466).
ثانيا:
المراد بالظل الوارد يوم القيامة: هو ظل العرش.
روى البخاري (1423) ، ومسلم (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ : الْإِمَامُ الْعَادِلُ ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ ، فَقَالَ : إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ .
وروى أحمد (16707) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي فِي ظِلِّ عَرْشِي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي ، وصححه الألباني في " صحيح الترغيب والترهيب " .
فيحمل المطلق في الأحاديث على هذا المقيد، فيكون الظل هو ظل العرش، بل جاء هذا إحدى روايات حديث السبعة، كما سيأتي.
وثبت أيضا ظل الأعمال.
فقد روى أحمد (16882) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ ، وصححه الشيخ الألباني في " صحيح الجامع " .
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : " صح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ) خرَّجه مسلم من حديث أبي اليسر الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وخرَّج الإمام أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من نفس عن غريمه ، أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة ) .
وهذا يدل على أن المراد بظل الله : ظل عرشه " انتهى من " فتح الباري لابن رجب" ( 4 / 63).
وسئلت اللجنة الدائمة للإفتاء: ما المراد بالظل المذكور في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ) الحديث .
فأجابت : " المراد بالظل في الحديث : هو ظل عرش الرحمن تبارك وتعالى ، كما جاء مفسرا في حديث سلمان رضي الله عنه في " سنن سعيد بن منصور " ، وفيه : ( سبعة يظلهم الله في ظل عرشه ) الحديث . حسن إسناده الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في "الفتح" (2/ 144).
وقد أشار ابن القيم رحمه الله تعالى في "الوابل الصيب" ، وفي آخر كتابه "روضة المحبين" إلى هذا المعنى. وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز آل الشيخ ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز " انتهى من " فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء – المجموعة الثانية - " ( 2 / 485 ) .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " قوله : ( لا ظل إلا ظله ) يعني : إلا الظل الذي يخلقه ، وليس كما توهم بعض الناس أنه ظل ذات الرب عز وجل ، فإن هذا باطل ؛ لأنه يستلزم أن تكون الشمس حينئذ فوق الله عز وجل " انتهى من " مجموع فتاوى " ( 8 / 497).
فبين الشيخ رحمه الله وجه استحالة أن يكون لله ظل، وهو أنه يستلزم أن تكون الشمس فوقه، تعالى الله عن ذلك.
وينظر جواب السؤال رقم : (183933)، ورقم : (292911) .
والله أعلم.
تعليق