الحمد لله.
أولا:
وردت هذه القصة عن غير واحد ، ولا يصح فيها شيء:
فروى ابن عدي في "الكامل" (5/ 400)، وأبو نعيم في "الحلية" (12/ 182) عن عَبد اللَّهِ بْنَ دَاوُدَ الْوَاسِطِيُّ قال: " بَيْنَمَا أَنَا وَاقِفٌ بِعَرَفَاتٍ، وَإذا بِامْرَأَةٍ وَهِيَ تَقُولُ (مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلُ فَلا هَادِيَ لَهُ) قَالَ فَقُلْتُ: امْرَأَةٌ ضَالَّةٌ فَنَزَلْتُ عَنْ بَعِيرِي فَقُلْتُ لَهَا: يَا هَذِهِ مَا قِصَّتُكِ؟ فَقَرَأَتْ: (ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كان عنه مسؤولا) قالَ: قُلتُ فِي نَفْسِي حَرُورِيَّةٌ، لا تَرَى كَلامَنَا، قَالَ فَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيْنَ أَنْتِ؟ فَقَرَأْتُ: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقصى) فَأَرْكَبَتُهَا بَعِيرِي وَقُدْتُ بِهَا أُرِيدُ بِهَا رِجَالَ الْمَقْدِسَيْينِ، فَلَمَّا تَوَسَّطْتُ الرِّجَالَ قُلْتُ يَا هَذِهِ بِمَنْ أُصَوِّتُ؟ فَقَرَأَتْ (يَا دَاوُدُ إِنَّا جعلناك خليفة في الأرض) (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) (يَا يَحْيى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) فَنَادَيْتُ: يَا زَكَرِيَّا، يَا يَحْيى، يَا دَاوُدُ، فَخَرَجَ إِلَيَّ ثَلاثَةُ فِتْيَانٍ مِنْ بَيْنِ الرِّجَالِ، فَقَالُوا: أُمُّنَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ضَلَّتْ مُنْذُ ثَلاثٍ، فَأَنْزَلُوهَا فَقَرَأَتْ: (اذْهَبُوا بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) فَعَدَوْا فَاشْتَرَوْا ثَمَرًا وَقُسْبًا وَجُوزًا، وَسَأَلُونِي قُبُولَهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ مَا لَهَا لا تتكلم، قَالُوا هَذِهِ أُمُّنَا لَمْ تَتَكَلَّمْ مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَةً إلاَّ بِالْقُرْآنِ؛ مَخَافَةَ أَنْ تَزَلَّ ".
وعَبد اللَّهِ بْن دَاوُدَ الْوَاسِطِيُّ هذا: قال البخاري: فيه نظر، وقال أبو حاتم: ليس بقوي، في حديثه مناكير، وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا يروي المناكير عن المشاهير لا يجوز الاحتجاج بروايته، وقال الدارقطني: ضعيف.
"تهذيب التهذيب" (5/ 201)
وقال ابن حبان في"روضة العقلاء" (ص 49)
أنبأنا عمرو بْن مُحَمَّد الأنصاري حَدَّثَنَا الغلابي حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن عمرو بْن حبيب حَدَّثَنَا الأصمعي قال: بينما أنا أطوف بالبادية، إذا أنا بأعرابية تمشي وحدها على بعير لها، فقلت يا أمة الجبار من تطلبين؟ فقالت: (من يهد اللَّه فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له) قَالَ فعلمت أنها قد أضلت أصحابها، فقلت لها كأنك قد أضللت أصحابك، قالت: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتينا حكما وعلما فقلت لها: يا هذه من أين أنت؟ قالت: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي باركنا حوله فعلمت أنها مقدسية، فقلت لها كيف لا تتكلمين؟ فقالت: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رقيب عتيد ... إلى آخر القصة.
والغلابي هو محمد بن زكريا متهم قال الدارقطني: يضع الحديث ، وقال ابن حبان: في روايته عن المجاهيل بعض المناكير.
"لسان الميزان" (5/ 168)
وشيخه في هذه القصة إبراهيم بن عمرو هذا مجهول.
وذُكر نحو ذلك عن عبد الله بن المبارك أنه قال: خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام ، فبينما أنا في الطريق إذا بسواد، فتميزت ذاك؛ فإذا هي عجوز عليها درع من صوف وخمار من صوف فقلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقالت (سلام قولاً من رب رحيم) فقلت لها يرحمك الله ، ما تصنعين في هذا المكان؟ قالت: (ومن يضلل الله فلا هادي له) فعلمت أنها ضلت الطريق، فقلت لها: أين تريدين؟؟ قالت: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) فعلمت أنها قد قضت حجتها وهي تريد بيت المقدس ... " القصة بطولها.
ولا نعلم لها أصلا عن ابن المبارك رحمه الله ، وقال الشيخ عبد العزيز السدحان في "كتب، أخبار، رجال، أحاديث: تحت المجهر" (ص73) عن هذه القصة:
" القصة باطلة من وجوه كثيرة منها:
أن كثيرا ممن ترجم لابن المبارك لم يذكر تلك القصة.
ومنها: أن القصة ليس لها زمام ولا خطام، فلم يذكر سندها.
ومنها: عدم إنكار ابن المبارك ـ رحمه الله ـ تعالى ـ فعلها ذاك، خاصة أن كثيرا من العلماء نهى عن التخاطب بالقرآن، وابن المبارك مشهور باتباعه للسنة؛ فكيف يترك الإنكار عليها؟!
ومنها: وضوح التكلف في تركيب السؤال والجواب، وهذا يدل على بطلانها" انتهى .
ثانيا:
هذا الفعل لا يجوز؛ لأن القرآن كلام الله ، أنزله الله هدى ورحمة وشفاء ، يتعبد عباده بتلاوته والعمل به ، فلا يجوز أن يجعله الإنسان- وهو كلام الله – بديلا عن كلامه هو، ووسيلة لقضاء حوائجه الدنيوية ، وبهذا أفتى العلماء:
جاء في كتاب "تلبيس إبليس" (ص 141)
" قَالَ ابْن عقيل: كان أَبُو اسحق الخراز صالحا، وَهُوَ أول من لقنني كتاب اللَّه ، وكان من عادته الإمساك عَنْ الكلام فِي شهر رمضان ، فكان يخاطب بآي القرآن فيما يعرض إليه من الحوائج ، فيقول فِي إذنه: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ ويقول لابنه فِي عشية الصوم: مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا آمرا لَهُ أن يشتري البقل !!
فقلت لَهُ: هَذَا الذي تعتقده عبادة ؛ هو معصية !!
فصعب عَلَيْهِ .
فقلت: إن هَذَا القرآن الْعَزِيز أنزل فِي بيان أحكام شرعية ، فلا يستعمل فِي أغراض دنيوية ، وما هَذَا إلا بمثابة صرك السدر والأشنان فِي ورق المصحف ، أَوْ توسدك لَهُ ، فهجرني ولم يصغ إِلَى الحجة ".
وقال ابن قدامة رحمه الله :
" ولا يجوز أن يجعل القرآن بدلا من الكلام ؛ لأنه استعمال له في غير ما هو له، فأشبه استعمال المصحف في التوسد ونحوه .
وقد جاء: لا تناظروا بكتاب الله . قيل: معناه لا تتكلم به عند الشيء تراه ، كأن ترى رجلا قد جاء في وقته، فتقول: ثم جئت على قدر يا موسى. أو نحوه. ذكر أبو عبيد نحو هذا المعنى." انتهى من "المغني" (3/77) .
وقال البهوتي رحمه الله : " (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْقُرْآنُ بَدَلًا مِنْ الْكَلَامِ، مِثْلُ أَنْ يَرَى رَجُلًا جَاءَ فِي وَقْتِهِ، فَيَقُولُ: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه: 40] ." انتهى من "كشاف القناع" (1/434) . وينظر أيضا "الكشاف" (2/363) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" قال أهل العلم: يحرم جعل القرآن بدلاً من الكلام، وأنا رأيت زمن الطلب قصة في جواهر الأدب، عن امرأة لا تتكلم إلا بالقرآن، وتعجب الناس الذين يخاطبونها، فقال لهم من حولها: لها أربعون سنة لم تتكلم إلا بالقرآن، مخافة أن تزل فيغضب عليها الرحمن.
نقول: هي زلَّت الآن، فالقرآن لا يجعل بدلاً من الكلام، لكن لا بأس أن يستشهد الإنسان بالآية على قضية وقعت ، كما يذكر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يخطب فخرج الحسن والحسين يمشيان ويعثُران بثياب لهما فنزل فأخذهما، وقال صدق الله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ » (1) [التغابن: 15] .
فالاستشهاد بالآيات على الواقعة إذا كانت مطابقة تماماً لا بأس به " .
انتهى من "الشرح الممتع" (6/ 531) .
والله تعالى أعلم.
تعليق