الحمد لله.
دلت السنة الصحيحة على أن الأمم تدعى يوم القيامة لتتبع من كانت تعبد، فمن كان يعبد الحجر أو الشجر، تبع الحجر أو الشجر، وألقوا في النار.
ولا يبقى إلا أهل التوحيد وفيهم المنافقون الذين كانوا يظهرون الإسلام كذبا ورياءً، فيأتيهم الله تعالى وهم في هذا الموقف، فيخر له من كان يسجد في الدنيا ، إخلاصا لا نفاقا. ولا يتمكن المنافق من السجود.
روى البخاري (4919) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، فَيَبْقَى كُلُّ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ، فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا .
ورواه مسلم (183) مطولا، وفيه:
حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا قَالَ: فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُد .
قَالُوا: يَا رَبَّنَا، فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ .
فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ ، لَا نُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ .
فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟
فَيَقُولُونَ: نَعَمْ .
فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ؛ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ ، إِلَّا أَذِنَ اللهُ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً ، إِلَّا جَعَلَ اللهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً، كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ ، وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ، فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ...
الحديث.
وعلم بهذا أن عصاة المؤمنين يسجدون لله؛ لأمرين:
الأول: أنهم كانوا يسجدون لله في الدنيا من تلقاء أنفسهم، أي إخلاصا.
الثاني: أنه بعد السجود، ينفصل المنافقون عن المؤمنين ويضرب بينهم بسور، ثم يعبر المؤمنون الصراط، ولا يعبره غيرهم، فمنهم الناجي، ومنهم الساقط في النار، وهؤلاء هم العصاة.
فالعصاة يسجدون لله، ويمتازون عن المنافقين، ويعبرون الصراط، ويسقط منهم في النار من شاء الله له أن يعذب.
قال الإمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله:
"وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ مُيِّزُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالسُّجُودِ، قَالَ اللَّهُ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [القلم: 43] .
وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا نَظَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ ، خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا، وَدُعِيَ الْمُنَافِقُونَ إِلَى السُّجُودِ ، فَأَرَادُوهُ ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا، حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ ، عُقُوبَةً لِتَرْكِهِمُ السُّجُودَ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، قَالَ اللَّهُ: وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ [القلم: 43] ؛ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا، وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم: 43] مِمَّا حَدَثَ فِي ظُهُورِهِمْ، مِمَّا حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السُّجُودِ" انتهى من "تعظيم قدر الصلاة" (1/ 296).
واستُدِل بهذا الحديث على أن تارك الصلاة كافر، وأنه لا يكون فيمن يسجد لله تعالى ، ولا فيمن يعبر الصراط، بل يذهب به إلى النار قبل ذلك مع عموم الكفار والمرتدين .
وتأكّد هذا بأدلة صريحة في كفر تارك الصلاة، وبما جاء من أن عصاة المسلمين في النار يُعرفون بآثار السجود ، وأن النار لا تأكل موضع السجود، وبما جاء من أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أمته بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء، وهو بياض ونور في الجبهة واليدين والقدمين.
والله أعلم.
تعليق