الحمد لله.
أولا:
الاستعاذة؛ معناها طلب الوقاية والحماية، فالاستعاذة بالله هو أن تطلب أن يحصنك ويحميك مما تخافه وتحذر منه.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" اعلم أن لفظ "عاذ" وما تصرف منها يدل على التحرز والتحصن والالتجاء، وحقيقة معناها: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه، ولهذا يسمى المستعاذ به "مَعَاذا"، كما يسمى "ملجأ ووَزَرا". وفي الحديث: " أن ابنة الجون لما أدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها، قالت: أعوذ بالله منك فقال لها: (قد عذت بمَعَاذ الحقي بأهلك)" ، فمعنى "أعوذ": ألتجئ وأعتصم وأتحرز " انتهى من "بدائع الفوائد" (2 / 703).
والمسلم في حياته كلها يسعى في توقي النار والعذاب الذي كلف به الملائكة الموكلون بها.
قال الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ التحريم/6.
فالمسلم إذا استعاذ بالله تعالى من خزنة النار، فالأصل أنه لا يقصد بذلك إلا الطلب من الله تعالى أن يعصمه مما وُكِّل به هؤلاء الملائكة من العذاب والعقاب، وأن يمنّ عليه بالوقاية من دخول النار، ومن أن يعاني غلظتهم وشدتهم في دفع أصحاب النار إليها .
ومجرد الاستعاذة لا يلزم منها أي اعتقاد سيء تجاه هؤلاء الملائكة الكرام؛ ودليل هذا أن الله تعالى شرع للمسلم أن يستعيذ به منه سبحانه وتعالى.
كحديث عَائِشَةَ، قَالَتْ: " فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمَّ! أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ " رواه مسلم (486).
فجملة وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ أي أستعيذ برضاك وعفوك وسائر صفات رحمتك، من عقوبتك وغضبك وسائر ما يقتضيه عدلك.
قال ابن عبد الر رحمه الله تعالى:
" وأما قوله في هذا الحديث (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ) فهو في معنى قوله: ( أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ ). " انتهى من "الاستذكار" (8 / 155).
وقال ابن القيم في "محتصر الصواعق المرسلة" (3/942) :
"(وأعوذ بك منك) والمستعاذ به غير المستعاذ منه ، وأما استعاذته به منه فباعتبارين مختلفين ، فإن الصفة المستعاذ بها، والصفة المستعاذ منها: صفتان لموصوف واحد ورب واحد ، فالمستعيذ
بإحدى الصفتين من الأخرى، مستعيذ بالموصوف بهما منه" انتهى .
وقال أيضا في "طريق الهجرتين" (1/431) :
"فاستعاذ بصفة الرضا من صفة الغضب ، وبفعل العافية من فعل العقوبة ، واستعاذ به منه باعتبارين ، وكأن في استعاذته منه جمعا لما فصله في الجملتين قبله ، فإن الاستعاذة به منه ترجع إلى معنى الكلام قبلها ، مع تضمنها فائدة شريفة ، وهي كمال التوحيد ، وأن الذي يستعيذ به العائذ ويهرب منه : إنما هو فعل الله ومشيئته وقدره ، فهو وحده المنفرد بالحكم ، فإذا أراد بعبده سوءا لم يعذه منه إلا هو" انتهى .
فالحاصل؛ أن الاستعاذة بالله تعالى من الملائكة الموكلين بالنار، لا محذور فيها من جهة المعنى، وإن كنا لا نعلم ثبوتها في شيء من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم . ويكفي المسلم أن يستعيذ بالله تعالى من النار وعذابها من غير ذكر تفاصيل ما فيها.
عَنْ أَبِي نَعَامَةَ، عَنِ ابْنٍ لِسَعْدٍ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّهُ قَالَ: " سَمِعَنِي أَبِي، وَأَنَا أَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَنَعِيمَهَا، وَبَهْجَتَهَا، وَكَذَا، وَكَذَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَسَلَاسِلِهَا، وَأَغْلَالِهَا، وَكَذَا، وَكَذَا.
فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ .
فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، إِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَ الْجَنَّةَ، أُعْطِيتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنْ أُعِذْتَ مِنَ النَّارِ، أُعِذْتَ مِنْهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الشَّرِّ " رواه أبو داود (1480) وحسنه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
والله أعلم.
تعليق