الحمد لله.
إذا كان مراد القائل لهذه العبارة : أن النفس تحتاج إلى شيء من (الترويح) والفسحة في بعض (المباحات) ، وإجمامها ، وإراحتها من كد الدنيا ، ومن جد العمل للآخرة ، لئلا تضجر النفوس ، ولتقوى على المسير ، والجد فيما ينفعها من أمر الدنيا والآخرة إن كان هذا هو مراد القائل : فهو معنى صحيح ، ولا يظهر لنا بأس بهذه العبارة .
وهي قريبة المعنى من الحديث الصحيح المشهور:
عَنْ حَنْظَلَةَ، قَالَ: " كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَعَظَنَا، فَذَكَّرَ النَّارَ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ إِلَى الْبَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلَاعَبْتُ الْمَرْأَةَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا تَذْكُرُ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ نَافَقَ حَنْظَلَةُ.
فَقَالَ: مَهْ .
فَحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا فَعَلَ.
فَقَالَ: يَا حَنْظَلَةُ! سَاعَةً وَسَاعَةً، وَلَوْ كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كَمَا تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ، حَتَّى تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الطُّرُقِ " رواه مسلم (2750).
فالحديث فيه بيان فضل مداومة القلب للذكر وأعمال الإيمان، ويجوز ترك ذلك أحيانا للقيام بأمور النفس وعدم إملالها.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( سَاعَةً وَسَاعَةً ) معناه: ساعة لقوة اليقظة ، وساعة للمباح ، وإن أوجبت بعض الغفلة. وهذا لأن الإنسان لو حقق مع نفسه : ما بقي . فلا بد للمتيقظ من التعرّض لأسباب الغفلة ليعدل ما عنده، ومن أين يقدر على الأكل والشرب والجماع من يرى الأمر – أي الآخرة - كأنه معاين، وإن من الغفلة لنعمة عظيمة، إلا أنها إذا زادت أفسدت، إنما ينبغي أن تكون بمقدار ما يعدّل" انتهى من "كشف المشكل" (4 / 229 - 230).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" ( يَا حَنْظَلَةُ! سَاعَةً وَسَاعَةً )؛ يعني ساعة للرب عز وجل، وساعة مع الأهل والأولاد، وساعة للنفس حتى يعطي الإنسان لنفسه راحتها، ويعطي ذوي الحقوق حقوقهم.
وهذا من عدل الشريعة الإسلامية وكمالها، أن الله عز وجل له حق فيعطى حقه عز وجل، وكذلك للنفس حق فتعطى حقها، وللأهل حق فيعطون حقوقهم، وللزوار والضيوف حق فيعطون حقوقهم، حتى يقوم الإنسان بجميع الحقوق التي عليه على وجه الراحة، ويتعبد لله عز وجل براحة، لأن الإنسان إذا أثقل على نفسه وشدد عليها مل وتعب، وأضاع حقوقاً كثيرة " .
انتهى من"شرح رياض الصالحين" (2 / 236).
فهذا هو المعنى الصحيح لهذه الكلمة : ساعة في عبادة الله تعالى والتفكر في أمور الآخرة ، وساعة أخرى في المباحات وحقوق النفس والناس ، حتى يستطيع المسلم أن يؤدي جميع ما عليه من الحقوق ، ويتقوى بتلك الساعة من المباحات على القيام بواجباته .
روى البخاري (1968) ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
" آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ؟ قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ: سَلْمَانُ قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ:
إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّه .
فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
صَدَقَ سَلْمَانُ ".
فإن كان هذا هو المقصود من تسمية المجموعة بهذا الاسم ، فلا يظهر في ذلك حرج ، ويكون المقصود أنه سيقضي ساعة مع أصدقائه يحادثهم ويتبادل معهم الفوائد ، والأحاديث المباحة ، من أجل الترويح عن النفس ، ليقبل على العبادة بعد ذلك بنشاط .
ومن شرط هذا أن يكون الوقت المقضي مع تلك المجموعة وقتا يسيرا ، يحصل به المقصود من دفع الملل من غير زيادة على ذلك ، فإن هذا إذا زاد : ضر ، وكان مضيعة للوقت ، وإفسادا للنفس وليس إصلاحا لها .
وأما أن يكون قائل ذلك ممن يغلب عليهم البطالة ، واللعب واللهو ، ويريد أن يسوي بين هذه الساعات ، لا بل يفعل ما يفعله البطالون ، فيكون غالب ساعاته اللهو ، واللعب ، والعبث ؛ فهذا هو ضياع الدين والدنيا ، وسفه العقل ، وضِلة الرأي .
على أنه ينبغي التنبه أن بعض الناس يطلق تلك الكلمة ويريد بها : ساعة في العبادة ، وساعة أخرى فيما يشاء من اللهو واللعب والعبث – ولو كان حراما – فمثل هذا لا يجوز قطعا ، فإن المسلم مأمور باجتناب ما حرم الله في كل وقت ، فغاية الأمر أن له ساعةً يدفع بها الملل عن نفسه بالمباح وليس بالمحرمات .
والله أعلم.
تعليق