الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

هل الأولى أن تعجل العقوبة للعبد في الدنيا أم أن يعافيه الله تعالى ؟

299472

تاريخ النشر : 28-03-2019

المشاهدات : 41147

السؤال

سمعت أحد المشايخ في شرح حديث : ( إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا... الحديث ) يقول : والعافية أن يعافيك الله في الدنيا والآخرة بعدم العقوبة ، سؤالي : هل هناك تعارض ؟

الجواب

الحمد لله.

بداية: الحديث المذكور حديث صحيح ، أخرجه الترمذي في "سننه" (2396) ، عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ، حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ  .

والحديث صححه ابن حجر في "فتح الباري" (8/124) ، والشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1220) .

ولا تعارض بين الحديث وبين أن يَمُنّ الله على عبده بالعافية ، وبيان ذلك كما يلي :

أن الناس في نزول العقوبات الربانية عليهم أصناف :

الصنف الأول :

وهم أهل العافية ، ممن عفا الله عنهم فعافاهم من العقوبة في الدنيا والآخرة ، وهذه هي العافية المطلقة ، أن يُعافي الله عبده من شؤم المعاصي في الدنيا ، وأن يعفو عن زلاته، ويعافيه من العقوبة في الدنيا والآخرة .

قال ابن القيم في "شفاء العليل" (ص111) :" وقوله : " وعافني فيمن عافيت " إنما يسأل ربه العافية المطلقة ، وهي العافية من الكفر والفسوق والعصيان، والغفلة والإعراض، وفعل ما لا يحبه، وترك ما يحبه ؛ فهذا حقيقة العافية ، ولهذا ما سئل الرب شيئا أحب إليه من العافية لأنها كلمة جامعة للتخلص من الشر كله وأسبابه " انتهى .

وهذا الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله به في كثير من أحواله .

فكان يدعو حين يصبح وحين يمسي بالعافية في دينه ودنياه .

فقد روى أبو داود في "سننه" (5074) ، من حديث عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، قال :" سمعتُ ابنَ عمر يقولُ: لم يكن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَدَعُ هؤلاء الدعواتِ حينَ يُمْسِي وحينَ يُصبحُ:  اللَّهُمَّ إني أسالُكَ العافيَةَ في الدُنيا والآخرة ، اللَّهُمَّ إني أسالُكَ العفوَ والعافيَةَ في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللَّهُمَّ استُر عوراتي، وآمِن رَوْعَاتي ، اللَّهُمَّ احفظني مِنْ بين يدىَّ ومن خلفي ، وعن يميني وعن شِمالي ، ومن فوقي ، وأعوذُ بعظمتِكَ أن أُغْتَال مِن تحتي  ".

والحديث صححه الشيخ الألباني في "صحيح ابن ماجه" (3121) .

وكان صلى الله عليه وسلم يدعو الله في قنوته فيقول:( وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ ).

 أخرجه الترمذي في "سننه" (464) ، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود" (1281).

ولذا كانت العافية هي خير ما أعطى الله عبده بعد الإيمان واليقين ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نسأل الله إياها ، كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي في "سننه" (3558) ، من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  اسْأَلُوا اللَّهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ ، فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ اليَقِينِ خَيْرًا مِنَ العَافِيَةِ   .

والحديث صححه الشيخ الألباني في "صحيح الترمذي" (2821) .

الصنف الثاني :

من أهل الإيمان ممن لهم ذنوب يستحقون بها العقوبة ، ولم ينلهم في الدنيا عفو الله عنها ، فهؤلاء إذا أراد الله بهم الخير، عجّل لهم العقوبة في الدنيا ، فيثمر ذلك فيهم توبة إلى الله ، ثم لا يعاقبون عليها يوم القيامة ، ويكون هذا رحمة من الله بهم .

قال ابن القيم في "زاد المعاد" (3/506) :" وَفِي نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ: دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِمْ وَكَذِبِ الْبَاقِينَ ، فَأَرَادَ هَجْرَ الصَّادِقِينَ وَتَأْدِيبَهُمْ عَلَى هَذَا الذَّنْبِ ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَجُرْمُهُمْ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُقَابَلَ بِالْهَجْرِ ، فَدَوَاءُ هَذَا الْمَرَضِ لَا يَعْمَلُ فِي مَرَضِ النِّفَاقِ ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ .

وَهَكَذَا يَفْعَلُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ بِعِبَادِهِ فِي عُقُوبَاتِ جَرَائِمِهِمْ ، فَيُؤَدِّبُ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يُحِبُّهُ، وَهُوَ كَرِيمٌ عِنْدَهُ ، بِأَدْنَى زَلَّةٍ وَهَفْوَةٍ ، فَلَا يَزَالُ مُسْتَيْقِظًا حَذِرًا .

وَأَمَّا مَنْ سَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ ، وَهَانَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعَاصِيهِ ، وَكُلَّمَا أَحْدَثَ ذَنْبًا ، أَحْدَثَ لَهُ نِعْمَةً ، وَالْمَغْرُورُ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَتِهِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ عَيْنُ الْإِهَانَةِ ، وَأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ ، وَالْعُقُوبَةَ الَّتِي لَا عَاقِبَةَ مَعَهَا ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: ( إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا أَمْسَكَ عَنْهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا ، فَيَرِدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِذُنُوبِهِ ) " انتهى.

ولا يعني هذا أن العبد المُبتلى المُعاقب على بعض ذنوبه خير من العبد المعافى ، بل لا يصح أن يتمنى مسلم أن يكون من أهل البلاء، حتى تخفف عقوبته يوم القيامة ، وإنما المشروع للعبد أن يسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة ، فإن أهل العافية أعلى حالا ومقاما من هذا الصنف ، ثم إنه لا يدري هل لو نزل به البلاء أيصبر أم يجزع .

فقد روى مسلم في "صحيحه" (2688) ، من حديث أنس: " أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، عَادَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟   قَالَ: نَعَمْ ، كُنْتُ أَقُولُ: اللهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ ، فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   سُبْحَانَ اللهِ لَا تُطِيقُهُ - أَوْ لَا تَسْتَطِيعُهُ - أَفَلَا قُلْتَ: اللهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ   قَالَ: فَدَعَا اللهَ لَهُ ، فَشَفَاهُ ".

فهذا الصحابي دعا الله أن يعجل له العقوبة في الدنيا، فكاد أن يهلك ، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك .

قال القاضي عياض في " إكمال المعلم" (8/186) :" وفيه كراهة تمنى البلاء ، وإن كان على الوجه الذى فعله هذا ، فإنه قد لا يطيقه ، فيحمله شدة الضرر على السخط والتندم والتشكي من ربه " انتهى.

ولا شك أن الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم هو الأعلى والأكمل ، وهو المعافاة .
فقد روى الإمام الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (5/291) هذا الحديث ، ثم قال :" فقال قَائِلٌ كَيْفَ تَقْبَلُونَ هذا عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْتُمْ قد رَوَيْتُمْ عنه فَذَكَرْنَا ما قد حدثنا يُونُسُ .. ثم ساق إسناده إلى أَنَسِ بن مَالِكٍ عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال:" إذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِعَبْدِهِ خَيْرًا عَجَّلَ له الْعُقُوبَةَ في الدُّنْيَا ، وإذا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِعَبْدِهِ شَرًّا أَمْسَكَ عنه بِذَنْبِهِ حتى يُوَفِّيَهُ يوم الْقِيَامَةِ "  قال هذا الْقَائِلُ: فإذا كان الأَمْرُ على ما في هذا الحديث، فَلِمَ لَحِقَ اللَّوْمُ من سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعَجِّلَ له الْعُقُوبَةَ في الدُّنْيَا ، لِيَسْلَمَ منها في الآخِرَةِ ؟

 فَكَانَ جَوَابُنَا له في ذلك بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عز وجل وَعَوْنِهِ : أَنَّ الذي ذَكَرَ من الحديث الثَّانِي كما ذَكَرَ ، وَاَلَّذِي في الحديث الأَوَّلِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِذَلِكَ ، غير أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اخْتَارَ لِأُمَّتِهِ ، إشْفَاقًا عليهم وَرَحْمَةً لهم وَرَأْفَةً بِهِمْ : أَنْ يَدْعُوا اللَّهَ عز وجل بِالْمُعَافَاةِ في الدُّنْيَا ، مِمَّا مِثْلُ ذلك الرَّجُلِ فيه ، وَأَنْ يُؤْتِيَهُمْ في الآخِرَةِ ما يُؤَمِّنُهُمْ من عَذَابِ الآخِرَةِ ؛ وَهَذِهِ الْحَالُ : فَهِيَ أَعْلَى الأَحْوَالِ كُلِّهَا .

فَبَانَ بِحَمْدِ اللَّهِ : أَنْ لاَ تَضَادَّ في شَيْءٍ من هذه الآثَارِ ، وَلاَ اخْتِلاَفَ ، وَاَللَّهَ عز وجل نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ " انتهى.

وقال ابن قدامة في "مختصر منهاج القاصدين" (ص294) :" فإن قال قائل: الأخبار الواردة في فضل الصبر: تدل على أن البلاء في الدنيا خير من النعيم ، فهل لنا أن نسأل الله عز وجل البلاء؟

فالجواب: أنه لا وجه لذلك ، فإن في الحديث من رواية أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاد رجلاً من المسلمين صار مثل الفرخ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "هل كنت تدعو بشيء أو تسأله؟ " قال: نعم ، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة ، فعجله لي في الدنيا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "سبحان الله لا تطيقه ولا تستطيعه ، فهلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". ، ومن حديث أنس رضى الله عنه أيضاً ، أن رجلاً قال: يا نبي الله: أي الدعاء أفضل؟ قال: "سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة " ثم أتاه الغد ، فقال يا رسول الله ، أي الدعاء أفضل؟ قال:" سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة " ، ثم أتاه اليوم الثالث، فقال:" سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة ، فإن أعطيت العفو والعافية في الدنيا والآخرة فقد أفلحت ".

وفى "الصحيحين" انه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تعوذوا بالله من جهد  البلاء ، ودرك الشقاء ، وسوء القضاء ، وشماتة الأعداء". وقال مطرف: لأن أعافى فأشكر ، أحب إليَّ من أن ابتلى فأصبر " انتهى .

وقال الشيخ ابن عثيمين في "القول المفيد" (2/76) :" وقوله : " عجل له العقوبة في الدنيا " . كان ذلك خيراً من تأخيرها للآخرة ، لأنه يزول وينتهى ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمتلاعنين : " إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة "

وهناك خير أولى من ذلك، وهو العفو عن الذنب ، وهذا أعلى ، لأن الله إذا لم يعاقبه في الدنيا ولا في الآخرة ، فهذا هو الخير كله ، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل تعجيل العقوبة خيراً ، باعتبار أن تأخر العقوبة إلى الآخرة أشد ، كما قال تعالى : ( ولعذاب الآخرة أشد وأبقي ) [ طه : 127 ] "  انتهى.

الصنف الثالث :

ممن أسرفوا على أنفسهم بإتيان الكبائر والموبقات ، ثم لم يعف الله عنهم في الدنيا ، ولم يعجل لهم العقوبة ، فهؤلاء في الظاهر في عافية من البلاء ، إلا أنهم على خطر عظيم ، إذ إن الله أمسك عنهم العقوبة في الدنيا ، ليغلظ عليهم العذاب في الآخرة .

وقد جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (17311) ، من حديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:  إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ  ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ الأنعام/44 ".

والحديث صححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (413) .

وختاما :

فقد تبين مما سبق أنه لا تعارض بين الحديث وبين أن يسأل العبد ربه العافية ، وأن عفو الله عن عبده وعافيته له من العقوبة في الدنيا والآخرة هي أوسع وأفضل للعبد من العقوبة ، وإن لم يكن العبد من أهل العافية، فأن يعاقبه الله ويبتليه ببعض ذنوبه في الدنيا ، ثم يصبره على البلاء: خير له من أن يمسك الله عنه العقوبة ، فيأتي يوم القيامة مثقلا بأوزاره ، معذبا بذنوبه ، عافانا الله وإياكم في الدنيا والآخرة ، إنه عفو كريم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب