الحمد لله.
أولا:
استعمال موانع الحمل جائز إذا وجد عذر لذلك ، كمرض الأم ومشقة الحمل عليها ونحو هذه الأعذار، وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال رقم : (127170)، ورقم :(20597).
فإذا لم تكن هناك حاجة معتبرة لاستعمال اللولب، ونحوه من وسائل منع الحمل : فالأصل أن يترك الأمر على حاله ، لما علم من تشوف الشرع إلى تكثير النسل ، وزيادة عدد الأمة ، لما يترتب على ذلك من مصالح كثيرة .
وما كان يحتاج إلى كشف عورة على الطبيب المعالج، أو الطبيبة، مثل اللولب ونحوه ، فهذا وجه زائد على ما سبق ، في المنع من استعماله من غير حاجة معتبرة .
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ رواه مسلم (338).
قال النووي رحمه الله تعالى:
" تحريم نظر الرجل إلى عورة الرجل، والمرأة إلى عورة المرأة، وهذا لاخلاف فيه، وكذلك نظر الرجل إلى عورة المرأة ، والمرأة إلى عورة الرجل : حرام بالإجماع.
ونبه صلى الله عليه وسلم بنظر الرجل إلى عورة الرجل ، على نظره إلى عورة المرأة ؛ وذلك بالتحريم أولى، وهذا التحريم في حق غير الأزواج ..." انتهى من "شرح صحيح مسلم" (4 / 30 - 31).
ومجرد الرغبة في تأخير الحمل لمدة يسيرة ، من أجل الرّاحة، كان يكفي له استعمال الموانع التي لا تحتاج إلى طبيب، إذا لم يترتب عليها ضرر زائد؛ وإلا ، فإذا كانت هناك مضرة راجحة، كما هو مشهور عن حبوب منع الحمل، كان ذلك مرجحا لاستعمال اللولب، لكن يكون ذلك عند طبيبة أمينة.
ثانيا:
من ركائز الإيمان المتفق عليها بين أهل السنة، الاعتقاد أن كل شيء يقع بقدر الله ومشيئته ، فلا يقع في ملكه شيء بغير إذنه وبغير إرادته.
قال عبد الغني المقدسي رحمه الله تعالى:
" وأجمع أئمة السلف من أهل الإسلام: على الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قليله وكثيره، بقضاء الله وقدره، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يجري خير وشر إلا بمشيئته... قال عز وجل: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) " انتهى من "الاقتصاد في الاعتقاد" (ص 151 - 152).
وهذا الاعتقاد لا يرفع عن الإنسان التكليف، فالله تعالى قد أعطى الإنسان حرية في اختيار أفعاله وأقواله، ولذا استحق أن يحاسبه عليها فيثيبه إن أحسن، ويعاقبه إن أساء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" ومما ينبغي أن يعلم أن مذهب سلف الأمة - مع قولهم: الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير وأنه هو الذي خلق العبد هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا ونحو ذلك - أن العبد فاعل حقيقة، وله مشيئة وقدرة، قال تعالى: ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ، وقال تعالى : ( إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ )، وقال تعالى: ( كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) " انتهى من "مجموع الفتاوى" (8 / 117 - 118).
لذا يجب على المسلم أن يؤمن بالأمرين كليهما، فيؤمن بأن كل شيء بقدر ، ويؤمن أن الإنسان فاعل لأفعاله ، وله قدرة على الاختيار، فإن كذّب بأحد الأمرين ضلّ عن الحق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وكل الأشياء كائنة بمشيئة الله وقدرته وخلقه، فلا بد أن يؤمن العبد بقضاء الله وقدره، وأن يوقن العبد بشرع الله وأمره.
فمن نظر إلى الحقيقة القدرية ، وأعرض عن الأمر والنهي ، والوعد والوعيد : كان مشابها للمشركين.
ومن نظر إلى الأمر والنهي، وكذب بالقضاء والقدر: كان مشابها للمجوسيين.
ومن آمن بهذا وبهذا - فإذا أحسن: حمد الله تعالى، وإذا أساء: استغفر الله تعالى، وعلم أن ذلك بقضاء الله وقدره - : فهو من المؤمنين، فإن آدم - عليه السلام - لما أذنب، تاب، فاجتباه ربه وهداه. وإبليس أصر، واحتج، فلعنه الله وأقصاه؛ فمن تاب كان آدميا، ومن أصر واحتج بالقدر؛ كان إبليسيا، فالسعداء يتبعون أباهم، والأشقياء يتبعون عدوهم إبليس.
فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. آمين يا رب العالمين " انتهى من "مجموع الفتاوى" (8 / 63 - 64).
فالحاصل؛ أن مع الإيمان أن الله قدّر عدم وجود أولاد لكم في الفترة الماضية، يجب الاعتقاد أنكم متحملون لسبب ذلك، لأنه وقع بفعلكم وإرادتكم واختياركم، وكان بإمكانك ألا تضعي اللولب من الأصل، وكان بإمكانك إذ وضعتيه، أن تزيليه في وقت سابق، وهكذا .
لكن لا يعني هذا أن تجلسي تلومي نفسك، كما وصفت في السؤال، فإن الاستغراق في الحزن على أمر مضى ، والانشغال بـ(لو كان، وكان)، والأسف على ما فات، وإضاعة الأوقات في التقديرات والحسابات، لن يفيدك الآن شيئا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وأما " الحزن " فلم يأمر الله به ولا رسوله، بل قد نهى عنه في مواضع وإن تعلق بأمر الدين، كقوله تعالى: ( وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) ... وقوله: ( لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ )، وأمثال ذلك كثير.
وذلك لأنه لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة فلا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه لا يأمر الله به...
وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه فيكون محمودا من تلك الجهة لا من جهة الحزن، كالحزين على مصيبة في دينه، وعلى مصائب المسلمين عموما فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير وبغض الشر...
وأما إن أفضى إلى ضعف القلب واشتغاله به عن فعل ما أمر الله ورسوله به كان مذموما عليه من تلك الجهة، وإن كان محمودا من جهة أخرى " انتهى من "مجموع الفتاوى" (10 / 16 - 17).
والإسلام دين سعي وعمل، فمن ارتكب خطئا، فلا يجلس متحسرا، بل يبادر إلى فعل ما ينفعه، وليغلق باب الماضي، بتوبة صادقة واستغفار، ولا يجلس يستعيد الذكريات، فهذا يقعده عن العمل النافع.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ رواه مسلم ( 2664).
والله أعلم.
تعليق