الحمد لله.
أولا:
سبق الكلام على العذر بالتأويل في جواب السؤال رقم : (192564) وفيه بيان أن المتأول أولى بالعذر من الجاهل؛ لأنه لا يجهل ما هو عليه ، بل يعتقده حقّاً ويستدل له وينافح عنه، وأن التأويل عذر في المسائل العملية أو العلمية .
وأنه لا تأويل في الشهادتين ووحدانية الله تعالى وثبوت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، والبعث والجنة والنار، أي في أصل الإيمان بهذه الأمور.
وأما من أثبت التوحيد، وآمن بالرسول واليوم الآخر، ثم نازع في صفة من صفات الله تعالى ، كالكلام والعلو، أو جوز الاستغاثة بغير الله، واعتمد في ذلك على بعض الشبهات، وهو قاصد للحق، غير معاند للشرع: فهذا جاهل أو متأول، وكلاهما معذور، فلا يكفر إلا بعد قيام الحجة عليه ، وإزالة الشبهة عنه، ولو كان عالما؛ فإن قصد الحق مع قيام الشبهة ، أوجب عذره.
وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا الإعذار في مواضع من كتبه، حتى في رده على من جوز الاستغاثة الشركية ممن ينتسب للعلم.
قال رحمه الله في "الرد على البكري" ص 411: " وقد قيل: إنما يفسد الناس نصف متكلم ، ونصف فقيه ، ونصف نحوي ، ونصف طبيب؛ هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد اللسان، وهذا يفسد الأبدان، لا سيما إذا خاض هذا في مسألة لم يسبق إليها عالم ، ولا معه فيها نقل عن أحد، ولا هي من مسائل النزال بين العلماء فيختار أحد القولين، بل هجم فيها على ما يخالف دين الإسلام المعلوم بالضرورة عن الرسول.
فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول ، نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن يدعو أحدًا من الأموات ، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ، ولا إلى ميت ونحو ذلك؛ بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله.
لكن لغلبة الجهل ، وقلة العلم بآثار الرسالة ، في كثير من المتأخرين؛ لم يمكن تكفيرهم بذلك ، حتى يتبيّن لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه.
ولهذا ما بينّت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الدين ؛ إلا تفطن، وقال هذا أصل دين الإسلام، وكان بعض الأكابر [من] الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول هذا أعظم ما بيّنته لنا ، لعلمه بأنّ هذا أصل الدين.
وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات، ويسألونهم ويستجيرون بهم، ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم، لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم ، فيدعونه دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه ، أو الدعاء به ، أو الدعاء عند قبره ؛ بخلاف عبادتهم لله ودعائهم إياه ، [فإنهم] يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف. حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام [لما] قدم دمشق ، خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، وقال بعض الشعراء:
يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر" انتهى.
وقد صرح شيخ الإسلام بأنه لا يكفّر البكري، لأجل الشبهات التي عرضت له، مع كونه فقيها منتسبا للعلم، ومع كونه قد كفّر شيخ الإسلام نفسه.
قال رحمه الله: " فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفّرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي ، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك ، وزنى بأهلك؛ ليس لك أن تكذب عليه ، وتزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله.
وكذلك التكفير حق لله ، فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله.
وأيضاً : فإن تكفير الشخص المعيّن ، وجواز قتله : موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئاً من الدين يُكفر".
وساق أدلة على العذر، ثم قال:
" ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة ، الذين نفوا أن يكون الله -تعالى- فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون ، لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم.
وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له، فكان هذا خطابنا.
فلهذا لم نقابل جهلُه [أي البكري] وافتراءه بالتكفير، بمثله، كما لو شهد شخص بالزور على شخص، أو قذفه بالفاحشة كذباً عليه ، لم يكن له أن يشهد عليه بالزور ، ولا أن يقذفه بالفاحشة" انتهى من "الرد على البكري"، ص252 .
ومنه يستفاد أن من اعتمد الشبهات الباطلة مع إرادته للحق فهو جاهل، ولو كان قاضيا وشيخا وعالما.
وقال رحمه الله في تقرير العذر بالتأويل وأنه يكون في المسائل العلمية والعميلة:
" وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها : قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ ، فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية .
هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وجماهير أئمة الإسلام" انتهى من "مجموع الفتاوى" (23/ 346).
والذي عرضت له الشبهات، هو المتأول الذي يجتهد في طلب الحق ويخطئ، وهو معذور فيما قاله أو من نصره من الأقوال التي يكفر قائلها.
وفصل الكلام في مسائل التكفير: أن من ثبت إسلامه بيقين ، لم يكفر حتى تقام عليه الحجة ، وتزال عنه الشبهة.
ولهذا لا نعلم أحدا من العلماء كفّر من جوز الاستغاثة الشركية من الفقهاء كالبكري والسبكي وابن حجر الهيتمي وغيرهم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: " وليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين ، وإن أخطأ وغلط ؛ حتى تقام عليه الحجة ، وتبين له المحجة.
ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة" الفتاوى (12/ 466).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم : (289620) .
والله أعلم.
تعليق