السبت 20 جمادى الآخرة 1446 - 21 ديسمبر 2024
العربية

هل تخلف المسلمون بسبب تقديم الوحي على العقل؟

317110

تاريخ النشر : 25-11-2019

المشاهدات : 12908

السؤال

هل سبب تدهور العلم في بلاد المسلمين هو تقديم النقل عن العقل؟ أنا لا أقصد في المسائل الدينية، أقصد أن الكثير من الناس تبتعد عن دراسة العلم بحجة أن كل العلم موجود في القرآن والسنة؟

الجواب

الحمد لله.

أولًا :

العلوم نوعان :

النوع الأول : العلوم الدينية كالعقائد والتوحيد والأحكام الفقهية ... ونحوها .

فهذه العلوم لا خلاف بين أهل السنة في أنها لا تتلقى إلا من الشرع، ويجب فيها تقديم النقل على العقل.

هذا مع أنه في الحقيقة لا يوجد تعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح.

وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابه العظيم : "درء تعارض العقل والنقل" ، وبين فيه أنه لا تعارض بينهما ، وإنما يقع التعارض في ظن الناظر في نصوص الكتاب والسنة وفي الأدلة العقلية .

فإذا وقع في الظن شيء من هذا التعارض ، فالواجب تقديم الأدلة الشرعية والتسليم لها ، وحينئذ يتهم العقل بالقصور وعدم إدراكه العلوم إدراكا صحيحًا .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كل ما يدل عليه الكتاب والسنة، فإنه موافق لصريح المعقول، والعقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، ولكن كثيراً من الناس يغلطون، إما في هذا وإما في هذا، فمن عرف قول الرسول ومراده به،  كان عارفاً بالأدلة الشرعية وليس في المعقول ما يخالف المنقول، ولهذا كان أئمة السنة على ما قاله أحمد بن حنبل: معرفة الحديث والفقه فيه أحب إلي من حفظه، أي معرفته بالتمييز بين صحيحه وسقيمه، والفقه فيه معرفة مراد الرسول وتنزيله على المسائل الأصولية والفروعية أحب إلي من أن تحفظ من غير معرفة وفقه، وهكذا قال علي بن المديني وغيره من العلماء ، فإنه من احتج بلفظ ليس بثابت عن الرسول، أو بلفظ ثابت عن الرسول وحمله على ما لم يدل عليه، فإنما أُتِيَ من نفسه....". انتهى من "مجموعة الرسائل والمسائل" لابن تيمية (3 /64 - 65) مختصرا.

وقال أيضا في "الرسالة العرشية" (1 /35): "ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كله حق يصدق بعضه بعضا، وهو موافق لفطرة الخلائق، وما جعل فيهم من العقول الصريحة، والقصود الصحيحة، لا يخالف العقل الصريح، ولا القصد الصحيح، ولا الفطرة المستقيمة " انتهى .

وقال أيضا: " ما خالف العقل الصريح فهو باطلٌ . وليس في الكتاب والسنَّةِ والإجماع باطل ، ولكن فيه ألفاظ قد لا يفهمها بعضُ النَّاس ، أو يفهمون منها معنى باطلاً ، فالآفةُ منهم ، لا من الكتاب والسُّنَّة " انتهى من "مجموع الفتاوى" ( 11 / 490 ).

النوع الثاني من العلوم : العلوم الدنيوية ، كالطب والهندسة والفلك والكيمياء .. وغيرها ، فهذه العلوم .. جاءت الشريعة بوضع ضوابط لها ، في تعلمها وتعليمها وممارستها وتطبيقها  ، ولم تأت النصوص الشرعية بتفصيلاتها ، وإنما تستفاد تفصيلاتها من التأملات العقلية والتجارب، وهذه العلوم تنمو وتكبر شيئا فشيئا، فالناس اليوم يكتشفون أشياء كانوا يجهلونها بالأمس ... وهكذا ، فتركت الشريعة أمر هذه العلوم الدنيوية للناس، مع لزوم التقيد بالضوابط الشرعية فيها.

وهذا ما تدل عليه النصوص الشرعية ، لا العكس الوارد في السؤال .

عن رَافِع بْن خَدِيجٍ، قَالَ: "قَدِمَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ، يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ، فَقَالَ:  مَا تَصْنَعُونَ؟ 

قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ.

قَالَ:  لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا  فَتَرَكُوهُ، فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ، قَالَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ:  إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ  رواه مسلم (2362).

وفي رواية له (2363) عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَعَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقَالَ:  لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ . 

قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ:  مَا لِنَخْلِكُمْ؟ 

قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ:  أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ  .

فأحالهم النبي صلى الله عليه وسلم في علوم الدنيا كعلم الزراعة إلى معرفتهم وتجربتهم، ولم يمنعهم من الاستفادة من ذلك، ولا أخبرهم أن الشريعة توجب عليهم أن يرجعوا في العلوم الدنيوية إلى الكتاب والسنة ، فما لم يجدوه فيهما كفوا عنه .

ثانيا :

ذكرت في سؤالك أن كثيرا من الناس ابتعد عن العلم بحجة أن كل العلم موجود في القرآن والسنة.

فيقال في الجواب عن ذلك ، مع أننا لا نعلم أحدا انصرف عن العلم بهذه الحجة ؛ فإن هذه الحجة في ذاتها غير صحيحة ، وقد أنكرها العلماء قديما ، فالقرآن فيه بعض إشارات عن بعض العلوم الدنيوية ، ولكنه ليس فيه كل شيء عنها .

قال الشاطبي رحمه الله تعالى:

" ... أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين، من علوم الطبيعيات، والتعاليم، والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح، وإلى هذا؛ فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم، كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى، سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف، وأحكام الآخرة، وما يلي ذلك، ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر، لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن، فدل على أنه غير موجود عندهم..." انتهى من "الموافقات" (2 / 127 - 128).

فانظر كيف حصر علوم القرآن في :

أحكام التكاليف ، وهي الأحكام الفقهية، وأحكام الآخرة، وهي العقائد، وما يلي ذلك ، أي ما يكون تابعا لذلك، أما العلوم الدنيوية فلم يأت القرآن ولا السنة بتفصيلاتها .

فأهل العلم لم ينهوا أحدا عن التخصص في علوم الدنيا النافعة، وراجع للأهمية، جواب السؤال رقم: (110419)، ورقم (112100).

ثالثا :

تخلف المسلمين ليس سببه إعراضهم عن العلوم الدنيوية واكتفاءهم بالعلوم الشرعية .

فإن عدد طلاب العلم الشرعي أقل بكثير من طلاب العلوم الدنيوية ، واعتبر ذلك بعدد الكليات الشرعية في الدول الإسلامية ، وقارنه بعدد الكليات العلمية .

بل الصحيح أن يقال :

إن تخلف المسلمين ، إنما هو راجع لتركهم لأسباب القوة العلمية ، وعدم أخذهم بها ، على وجهها ، ولا علاقة لذلك ، من قريب ولا بعيد ، بتمسكهم بدينهم .

بل إن أردنا أن نعلق ذلك التخلف ، بالدين وأسبابه ، فسوف نقول : إن تخلف المسلمين وضعفهم؛ إنما كان لأجل تخلفهم وضعفهم في أمر دينهم ، وضعف تمسكهم به ، وحرصهم عليه؛ أو هو على أقل تقدير: أقرب إلى أن يكون ناتجا عن ذلك الضعف، من أن يكون أثرا لتمسكهم بدينهم ؛ فما زال المسلمون يمسكون بأمر دينهم ، وكتابهم ، على مدار تاريخهم ، وكانوا أقوى وأحسن حالا من غيرهم ، وأقدر على الأخذ بأسباب النهوض في أمر الدين والدنيا.

وبعض الناس ينظر إلى القرنين أو الثلاثة الأخيرة ، وينظر إلى تخلف المسلمين فيها ، ثم يتهم الإسلام بالتسبب في ذلك ، ولا ينظر إلى أحد عشر قرنا قبلها ، كان المسلمون هم قادة العالم وسادته ، ليس في قوة السلاح والجيوش فحسب ، وإنما في التقدم العلمي ، والأخلاقي والحقوقي ، فالحضارة التي أقامها المسلمون عبر أحد عشر قرنا لم يقم مثلها في التاريخ البشري ، لأنها كانت مبنية على توحيد الله تعالى والإيمان الصحيح ، والأخلاق المستقيمة ، وكانت الاختراعات والاكتشافات والأبحاث العلمية إنما تهدف إلى نفع البشرية لا إلى الإضرار بها وتدميرها ، كما ترى الآن .

وحينما يرجع المسلمون إلى حقيقة الدين الذي أنزله الله تعالى ، ويقومون به حق القيام ، فسوف يتحقق لهم وعد الله تعالى ويكونون هم قادة العالم إلى ما فيه تعميره وخيره ، لا إلى ما فيه تدميره وشره ، وعسى أن يكون ذلك قريبا إن شاء الله .

وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم:(149636)، ورقم: (112100) . 

وللمفكر، والأديب، والمؤرخ الشهير: الأمير شكيب أرسلان، كتاب مفيد في هذا المعنى: " لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب