الحمد لله.
قال أبو عبد الله الحاكم رحمه الله تعالى:
" ذِكْرُ مَنَاقِبِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ السَّجَّادِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ مِنَ الزُّهَّادِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ، وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَرَّكُونَ بِهِ وَبِدُعَائِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ لُقِّبَ بِالسَّجَّادِ، حَدَّثَنَا بِصِحَّةِ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيُّ كَمَا قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ " انتهى من "المستدرك" (3 / 374).
فهذا التبرك لم يذكر له الحاكم إسنادا، بل ذكره معلقا، وقوله: " حَدَّثَنَا بِصِحَّةِ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيُّ كَمَا قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ ".
الظاهر أنه لا يقصد قضية التبرك، لأنه لم يتقدم ذكر لها، وإنما يقصد قضية تلقيب محمد بن طلحة، بـ "السجاد"، فقد سبق ذكرها في (3 / 369)، قال الحاكم: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَطَّةَ – وهو أصبهاني-، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَرَجِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، حَدَّثَهُ مَخْرَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْوَالِبِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: قَالَ لِي طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: " حَضَرْتُ سُوقَ بُصْرَى، فَإِذَا رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَتِهِ ...
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ – أي الواقدي -: وَكَانَ طَلْحَةُ يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ، وَأُمُّهُ الصَّعْبَةُ ابْنَةُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ، وَقُتِلَ طَلْحَةُ يَوْمَ الْجَمَلِ، قَتَلَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَكَانَ لَهُ ابْنُ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ، وَهُوَ الَّذِي يُدْعَى السَّجَّادُ، وَبِهِ كَانَ طَلْحَةُ يُكَنَّى، قُتِلَ مَعَ أَبِيهِ طَلْحَةَ يَوْمَ الْجَمَلِ وَكَانَ طَلْحَةُ قَدِيمَ الْإِسْلَامِ ".
وهذا خبر ضعيف جدا؛ لأن مداره على الواقدي، وهو متروك.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، مولاهم، الواقدي، صاحب التصانيف، مجمع على تركه، وقال ابن عدي: يروي أحاديث غير محفوظة والبلاء منه. وقال النسائي: كان يضع الحديث ... " انتهى من "المغني في الضعفاء" (2 / 619).
ولذا علق الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله تعالى على قول الحاكم: " حَدَّثَنَا بِصِحَّةِ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيُّ كَمَا قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ ".
فقال:
" أنّى له الصحة، وهو من طريق الواقدي الكذاب" انتهى من "المستدرك بتحقيق الشيخ مقبل" (3 / 459).
هذا وقد عاش محمد بن طلحة رضي الله عنه زمن الخلفاء الأربعة، ولم يعش بعدهم، لأنه توفي في موقعة الجمل، فإذا كان هذا، فلو كان المقصود بالتبرك هو بذاته وأشيائه، فلو كان مشروعا، فكيف ينصرف الصحابة عن التبرك بمن هم متفقون على أنهم خير هذه الأمة، وهم الخلفاء الأربعة، ثم يتبركون بغيرهم من صغار الصحابة؟!
وهذا الخبر مناف لما استقر عند أهل التحقيق من عدم تبرك السلف الصالح بذوات وآثار بعضهم البعض، وأن هذا التبرك لم يكن من هديهم وسيرتهم.
قال الشاطبي رحمه الله تعالى:
" الصحابة رضي الله عنهم بعد موته صلى الله عليه وسلم لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه، إذ لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو كان خليفته، ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر بن الخطاب، وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركا تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسِّيَر التي اتبعوا فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إذا إجماع منهم على ترك تلك الأشياء كلها " انتهى من "الاعتصام" (2 / 302 - 303).
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وكذلك التبرك بالآثار، فإنما كان يفعله الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يفعلونه مع بعضهم بعضا، ولا يفعله التابعون مع الصحابة، مع علو قدرهم.
فدل على أن هذا لا يفعل إلا مع النبي صلى الله عليه وسلم، مثل التبرك بوضوئه، وفضلاته، وشعره، وشرب فضل شرابه وطعامه.
وفي الجملة، فهذه الأشياء فتنة للمعظَّم ، وللمعظِّم ، لما يخشى عليه من الغلو المدخل في البدعة، وربما يترقى إلى نوع من الشرك.
كل هذا إنما جاء من التشبه بأهل الكتاب والمشركين الذي نهيت عنه هذه الأمة... " انتهى من "الحكم الجديرة بالإذاعة" (ص 46).
والله أعلم.
تعليق