الحمد لله.
"المسك" الذي عرفته العرب زمن نزول الوحي من أفضل أنواع الطيب ، بل هو أفضلها وأطيبها، كما تدل عليه نصوص الكتاب والسنة.
كقول تعالى: خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ المطففين/26.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" ثبت في "صحيح مسلم"، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أَطْيَبُ الطِّيبِ الْمِسْكُ).
وفي "الصحيحين": عن عائشة رضي الله عنها: ( كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَيَوْمَ النَّحْرِ، قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ ).
فالمسك: ملك أنواع الطيب، وأشرفها وأطيبها، وهو الذي تضرب به الأمثال، ويشبه به غيره، ولا يشبه بغيره، وهو كثبان الجنة...
وهو من أقوى المفرحات " انتهى من "زاد المعاد" (4 / 363).
والمسك يستخرج من غزال يسمى بـ "غزال المسك" وهو أنواع فمنه الجيد ومنه ما دون ذلك .
وأما المسك الذي يوجد اليوم عند العطارين، وتعافه النفوس؛ فإنه يقطع بأنه ليس هو المسك الذي عرفته العرب زمن الوحي وضربت به الأمثال، وليس هو المسك الذي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ومدحه، أو أنه من المسك لكنه رديء النوع لم يحسن استخلاصه من مصادره.
لأن المسك الذي تتابع أهل الأخبار على أنه كان يجلب إلى بلاد العرب هو مسك الغزال، وبينوا أنه تختلف جودته باختلاف طريقة استخراجه ، وباختلاف مرعى الغزال الذي يستخرج منه .
قال شهاب الدين النويري رحمه الله تعالى:
" قال محمد بن أحمد بن الخليل بن سعيد التّميمي المقدسي في كتابه المترجم بـ "جيب العروس وريحان النفوس": المسك أصناف كثيرة، وأجناس مختلفة؛ فأرفعها وأفضلها التّبّتي...
قال: وأصل المسك من بهيمة ذات أربع، أشبه شيء بالظّبى الصغير. وقد ذكرنا غزال المسك في "الباب الثالث من القسم الثاني من الفنّ الثالث"...
وقال الحسين بن يزيد السّيرافى - وهو من أهل الخبرة ببرّ الصّين وبحرها، ومسالكها وممالكها-: إنّ الأرض الّتي بها ظباء المسك الصّينى والتّبّتى أرض واحدة لا فرق بينهما، وأهل الصّين يجمعون من المسك ما قرب منهم، وكذلك أهل التّبّت. قال: وإنما فضّل المسك التّبّتى على المسك الصّينى لأمرين:
أحدهما: أنّ ظباء المسك الّتي في حدود التّبّت ترتعى سنبل الطّيب، وما يلى منها أرض الصّين ترتعى سائر الحشائش.
والثاني: أنّ أهل التّبّت يتركون النّوافج بحالها؛ وأهل الصّين ربّما يغشّون فيها، ولسلوكهم بها فى البحر وما يلحقها من الأنداء؛ فأمّا إذا ترك أهل الصّين المسك في نوافجه من غير غشّ، وأحرز فى البرانى، وحمل إلى أرض العرب، فلا فرق بينه وبين التّبّتي في الجودة.
قال: وأجود المسك كلّه ما حكّته الظّباء على أحجار الجبال، وذلك أنّ المادّة الغليظة الدّمويّة اذا انصبّت إلى سرر الظّباء اجتمعت فيها كاجتماع الدم فيما يعرض من الدّماميل، فاذا أدرك وأضجر الظّباء، حكّت السّرر بالحجارة بحدّة وحرقة فيسيل ما في السّرر على أطراف الحجارة؛ فاذا خرج عنها جفّت السّرر واندملت وعادت المادّة فاجتمعت فيها، فيخرج أهل التّبّت في طلب هذا الدم السائل ولهم به معرفة، فيلتقطونه ويجعلونه في النّوافج، ويحملونه إلى ملوك خراسان، وهو نهاية المسك جودة وفضلا، إذ هو ممّا أدرك على حيوانه، فصار فضله على غيره من المسك كفضل ما يدرك من الثّمار على أشجاره على ما يقطف قبل بلوغه وإدراكه.
قال: وغير هذا من المسك فإنّما تصاد ظباؤه بالشّرك وبالسّهام، وربّما قطعت النّوافج عن الظّباء قبل إدراك المسك فيها. قال: على أنّه إذا قطع عن ظبائه كان كريه الرائحة مدّة طويلة إلى أن يجفّ على طول الأيّام، فيستحيل مسكا...
وقال أحمد بن أبى يعقوب: أفضل المسك التّبّتى، ثم بعده المسك الصّغدى، وبعد الصّغدى المسك الصّينى...
وقال: أجود المسك في الرائحة والمنظر ما كان تفّاحيا، تشبه رائحته رائحة التّفّاح اللّبنانى، وكان لونه تغلب عليه الصّفرة، وكان بين الجلال والدّقاق وسطا؛ ثم الذى يليه وهو أشدّ سوادا منه، إلّا أنّه يقاربه في الرائحة والمنظر، وليس مثله؛ ثم الذى هو أشدّ سوادا منه، وهو أدناه قدرا وقيمة... " انتهى من "نهاية الأرب" (12 / 1 - 14).
وينظر: "معجم البلدان" (2 / 11).
فالظاهر؛ أن هذا المسك الأسود الذي ذكرته إن كان أصيلا غير مغشوش؛ فلعله أخذ قبل نضجه وتمام طيب رائحته.
والذي نعتقده أنه لا علاقة له بالمسك المعروف عند العرب، والأقرب أنه شيء صناعي، مثل كثير من الأنواع المتداولة بين الناس.
والله أعلم.
تعليق