الحمد لله.
ما ورد في مواضع عدة من القرآن أن أهل الجنة لهم ما يشتهون، كما في قول الله تعالى:
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ النحل/31.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" وقوله هنا: ( لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ )، أوضحه في مواضع أخر، كقوله: ( لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) ، وقوله: ( وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )، وقوله: ( لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا )، وقوله: ( لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ )، وقوله: ( وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ )، إلى غير ذلك من الآيات " انتهى من "أضواء البيان" (3 / 322 - 323).
هذه النصوص لا تبطل ولا تقلل من أهمية النصوص التي وعد الله تعالى فيها بشيء معيّن من نعيم الجنة لمن عمل طاعة معيّنة؛ كحديث جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الجَنَّةِ ) رواه الترمذي (3464) وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ"، وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1 / 134).
فالقول بأن هذه الآية الكريمة تغني عن العمل بمثل هذه الأحاديث ، هو أمر غير صحيح؛ للآتي:
أولا:
الله تعالى هو الذي أخبر بأن للمؤمن في الجنة ما يشتهي، وهو الذي رغب بغراس الجنة عن طريق التسبيح؛ فيجب على المسلم أن يمضي كل نص كما هو؛ لأن نعيم الجنة وكيفيته من علم الغيب؛ فلا مجال للعقل فيه؛ بل يجب التسليم بذلك.
قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله تعالى:
" اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله، على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع. ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك " انتهى من "شرح الطحاوية" (ص 261).
ثانيا:
لله تعالى في كل أمر حكمة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" الله سبحانه حكيم لا يفعل شيئا عبثا ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها ... " انتهى من "شفاء العليل" (ص 190).
ولعل من حكم هذا الحديث؛ أن هذا النخل لا يشبه النخل الذي قد يشتهيه المؤمن في الجنة، فلا يدرك إلا بهذا التسبيح؛ وبه يتفاضل أهل الجنة، كما قال أهل العلم عن حديث عُثْمَان بْن عَفَّان، قال: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ بَنَى مَسْجِدًا - قَالَ بُكَيْرٌ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ - بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الجَنَّةِ رواه البخاري (450)، ومسلم (533).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وأما قوله: (مِثْلَهُ)، فليس المراد أنه على قدره، ولا على صفته في بنيانه، ولكن المراد - والله أعلم - أنه يوسع بنيانه بحسب توسعته، ويحكم بنيانه بحسب إحكامه، لا من جهة الزخرفة، ويكمل انتفاعه بما يبنى له في الجنة بحسب كمال انتفاع الناس بما بناه لهم في الدنيا، ويشرف على سائر بنيان الجنة كما تشرف المساجد في الدنيا على سائر البنيان... " انتهى من "فتح الباري" (3 / 320 – 321).
ثالثا:
أن الجزاء الوارد في أمثال هذه النصوص هو من فضل الله تعالى لترغيب عباده في ملازمة أسباب دخول الجنة؛ فتركها بحجة أنه سيشتهيها في الجنة؛ هو فهم مناقض لمقصد الشرع وإبطال له حيث يدعو إلى التكاسل والتهاون في فعل ما يوصل إلى الجنة.
رابعا :
الآيات السابقة التي فيها أن لأهل الجنة ما يشتهون ، لا يصح فهمها على العموم الشامل لكل شيء ، فإنه لو اشتهى منزلة الأنبياء لم يكن له ذلك ، ولو اشتهى أن يكون أعلى اهل الجنة منزلة لم يكن له ذلك ، ولو اشتهى أن يكون المؤمنون كلهم متساويين في نعيم الجنة لم يكن له ذلك ... فظهر بهذا أن المراد – والله أعلم – أن المؤمن إن اشتهى ما يتناسب مع منزلته في الجنة فإنه يجاب إلى ذلك .
وعلى هذا ينبغي أن تفهم هذه النصوص .
فالنصوص عامة ، نعم ، ولكن عمومها إنما هو بما يتناسب مع منزلته في الجنة .
وقد يكون من عاقبة التفريط في العمل بما رغب فيه الشرع : أن هذا المقام الشريف : لا تبلغه أمنيته ، ولا يشتهيه أن يرزقه في الجنة أصلا ، ويصرف عنه لأجل أنه لم يسلك سبيله ، ولم يحقق العمل الموصل إليه .
وبهذا تظهر فائدة هذا الحديث ، فالمؤمن في الجنة يصرف أن يشتهي أن تكون منزلته ومنزلة من هو أكثر منه عملا واحدة ؛ فلا يعطى ما ليس له ، وما لم يبلغه قدره ، ثم إنه أيضا من رحمة الله ونعمته على أهل الجنة ، أنه لا ينغص عليهم عيشهم فيها ، فلا يقع له فيها أن يشتهي ما ليس له ، ثم يحرمه الله منه ؛ بل تصرف عنه شهوته من أصله ، ولا تبلغه أمانيه .
والله أعلم.
تعليق