الحمد لله.
جاء عَنْ أَبِي ذَرٍّ أنه قَالَ : إِنَّ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنِي: أَنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ ثَلَاثَةَ أَفْوَاجٍ : فَوْجٌ رَاكِبِينَ طَاعِمِينَ كَاسِينَ، وَفَوْجٌ تَسْحَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَتَحْشُرُهُمُ النَّارُ، وَفَوْجٌ يَمْشُونَ وَيَسْعَوْنَ يُلْقِي اللَّهُ الْآفَةَ عَلَى الظَّهْرِ فَلَا يَبْقَى، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَتَكُونُ لَهُ الْحَدِيقَةُ يُعْطِيهَا بِذَاتِ الْقَتَبِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا.
أخرجه النسائي (2086)، وأحمد (21456)، والحاكم في المستدرك (3389) وابن أبي شيبة (34396) والبزار (3891) وقال : هَذَا الْكَلَامَ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَا نَعْلَمُ رَوَى حُذَيْفَةُ بْنُ أُسَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ.
وهذا الحديث مختَلف في إسناده ومتنه، فمن المحدثين من ضعف إسناده، ومنهم من قال بنكارة متنه.
فقال الحاكم في "المستدرك" (2/ 398): "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ".
قال الذهبي في التلخيص (3389) على شرط مسلم؛ ولكنه منكر.
وضعفه الألباني في "ضعيف النسائي" (2085)، وقال في "ضعيف الترغيب" (2089) "منكر".
ولعل الطعن في إسناده جاء من جهة الوليد بن عبد الله بن جميع الكوفي، فقد روى له مسلم في صحيحه؛ لكن اختلف فيه العلماء : فوثقه ابن معين، والعجلي. وقال أحمد وأبو زرعة: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال ابن حبان : فَحُش تفرده فبطل الاحتجاج به . وقال الحاكم : لو لم يذكره مسلم في "صحيحه" لكان أولى.
وينظر : "ميزان الاعتدال" (4/337).
ورتبته عند الحافظ ابن حجر: " صدوق يهم، ورمى بالتشيع " انتهى.
وقال شعيب الأرناؤوط في "تحقيق مسند أحمد" (35/ 361) : " إسناده قوي، الوليد بن جميع - وهو الوليد بن عبد الله بن جميع - روى له مسلم، وهو صدوق لا بأس به، وباقي رجال الإسناد ثقات رجال الشيخين "انتهى.
وللحديث أصل في البخاري (6522)، ومسلم (2861) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلاَثِ طَرَائِقَ : رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلاَثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَيَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ، تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا .
وقد اختلف العلماء في زمان هذا الحشر اختلافا كثيرًا، ذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(11/ 379)، فقال :
" قال الخطابي : هذا الحشر يكون قبل قيام الساعة؛ تحشر الناس أحياء إلى الشام، وأما الحشر من القبور إلى الموقف فهو على خلاف هذه الصورة من الركوب على الإبل والتعاقب عليها ؛ وإنما هو على ما ورد في حديث ابن عباس في الباب (حفاة عراة مشاة ) .
قال : وقوله (واثنان على بعير وثلاثة على بعير إلخ) : يريد أنهم يعتقبون البعير الواحد، يركب بعضٌ ويمشي بعض .
قلت: وإنما لم يذكر الخمسة والستة إلى العشرة؛ إيجازا واكتفاء بما ذكر من الأعداد، مع أن الاعتقاب ليس مجزومًا به، ولا مانع أن يجعل الله في البعير ما يقوى به على حمل العشرة .
ومال الحليمي إلى أن هذا الحشر يكون عند الخروج من القبور. وجزم به الغزالي .
وقال الإسماعيلي : ظاهر حديث أبي هريرة يخالف حديث ابن عباس المذكور بعدُ؛ أنهم ( يحشرون حفاة عراة مشاة) ؟
قال : ويجمع بينهما بأن الحشر يُعَبَّر به عن النشر، لاتصاله به ؛ وهو إخراج الخلق من القبور حفاة عراة؛ فيساقون ويجمعون إلى الموقف للحساب ؛ فحينئذ يحشر المتقون ركبانا على الإبل .
وجمع غيره بأنهم يخرجون من القبور بالوصف الذي في حديث ابن عباس، ثم يفترق حالهم من ثم إلى الموقف، على ما في حديث أبي هريرة، ويؤيده ما أخرجه أحمد والنسائي والبيهقي من حديث أبي ذر، حدثني الصادق المصدوق: ( أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج فوج طاعمين كاسين راكبين وفوج يمشون وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم...) الحديث.
وصوب عياض ما ذهب إليه الخطابي، وقواه بحديث حذيفة بن أسيد، وبقوله في آخر حديث الباب: ( تقيل معهم وتبيت وتصبح وتمسي)؛ فإن هذه الأوصاف مختصة بالدنيا.
وقال بعض شراح المصابيح : حمله على الحشر من القبور أقوى من أوجه :
أحدها : أن الحشر إذا أطلق في عرف الشرع إنما يراد به الحشر من القبور، ما لم يخصه دليل .
ثانيها : أن هذا التقسيم المذكور في الخبر لا يستقيم في الحشر إلى أرض الشام؛ لأن المهاجر لا بد أن يكون راغبا أو راهبا أو جامعا بين الصفتين، فأما أن يكون راغبا راهبا فقط، وتكون هذه طريقة واحدة لا ثاني لها من جنسها؛ فلا.
ثالثها : حشر البقية على ما ذكر، وإلجاء النار لهم إلى تلك الجهة، وملازمتها حتى لا تفارقهم: قول لم يرد به التوقيف، وليس لنا أن نحكم بتسليط النار في الدنيا على أهل الشنوة من غير توقيف.
رابعها : أن الحديث يفسر بعضه بعضا، وقد وقع في الحسان من حديث أبي هريرة وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن علي بن زيد عن أوس بن أبي أوس عن أبي هريرة بلفظ ( ثلاثا على الدواب وثلاثا ينسلون على أقدامهم وثلاثا على وجوههم )، قال: ونرى أن هذا التقسيم الذي وقع في هذا الحديث، نظير التقسيم الذي وقع في تفسير الواقعة في قوله تعالى (وكنتم ازواجا ثلاثة) الآيات، فقوله في الحديث: ( راغبين راهبين ) يريد به عوام المؤمنين ؛ وهم من خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا، فيترددون بين الخوف والرجاء، يخافون عاقبة سيئاتهم ويرجون رحمة الله بإيمانهم ؛ وهؤلاء أصحاب الميمنة. وقوله : ( واثنان على بعير.. إلخ) السابقين، وهم أفاضل المؤمنين يحشرون ركبانًا. وقوله : ( وتحشر بقيتهم النار ): يريد به أصحاب المشأمة. وركوب السابقين في الحديث يحتمل الحمل دفعة واحدة، تنبيهًا على أن البعير المذكور يكون من بدائع فطرة الله تعالى، حتى يقوى على ما لا يقوى عليه غيره من البعران، ويحتمل أن يراد به التعاقب.
قال الخطابي: وإنما سكت عن الواحد، إشارة إلى أنه يكون لمن فوقهم في المرتبة كالأنبياء ؛ ليقع الامتياز بين النبي ومن دونه من السابقين في المراكب كما وقع في المراتب " انتهى.
والذي يظهر: أن الحشر المذكور في الحديثين هو الحشر الذي يكون قبل قيام الساعة .
ويشهد له: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّهَا سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ لَخِيَارِ النَّاسِ إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ، لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ إِلَّا شِرَارُ أَهْلِهَا، تَلْفِظُهُمْ أَرْضُهُمْ، تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللَّهِ، تَحْشُرُهُمُ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، تَبِيتُ مَعَهُمْ إِذَا بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا، وَتَأْكُلُ مَنْ تَخَلَّفَ أخرجه معمر بن راشد في "جامعه" (11/376)، وأحمد في "مسنده" (9/396)، وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (3203).
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله:
" يدل عَلَى أن خيار الناس في آخر الزمان مهاجرون إِلَى مهاجر إبراهيم عليه السلام - وهي الشام – طوعًا، فيجتمعون فيها.
وأما شرار الناس فيحشرون كرهًا، تحشرهم النار من بلادهم إِلَى الشام.
[ثم ذكر حديث أبي هريرة السابق عن الطرائق الثلاثة، ثم قال]
هذه الثلاث المذكورة في هذا الحديث :
أحدها: من يحشر راغبًا، وهو من يهاجر إِلَى الشام طوعًا.
والثاني: من يحشر رهبة وخوفًا عَلَى نفسه ؛ لظهور الفتن في أرضه.
والثالث: من تحشره النار قسرًا، وهو شر الثلاثة" انتهى من "مجموع رسائل ابن رجب" (3/238)
أما الحشر من القبور ؛ فهو على الصفة التي في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، ثُمَّ قَرَأَ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ رواه البخاري(349)، ومسلم (2860) .
وينظر جواب السؤال رقم :(240099)،(238482).
والله أعلم.
تعليق