الحمد لله.
أولا:
من هم الصديقون؟
قال الله تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ الحديد/ 19.
الصِّدِّيقُونَ: هم أتباع الرسل الذين اتبعوهم على مناهجهم بعدهم ، حتى لحقوا بهم .
وقيل: الصِّدِّيقُ هو الذي صدّق بكل الدين ، حتى لم يخالطه فيه شك .
وقال ابن القيم رحمه الله : " أَعْلَى مَرَاتِبِ الصِّدْقِ : مَرْتَبَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ ، وَهِيَ كَمَالُ الِانْقِيَادِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مَعَ كَمَالِ الْإِخْلَاصِ لِلْمُرْسِلِ " انتهى من" مدارج السالكين "(2/ 258).
وقد سبق في موقعنا بيان هذه المنزلة في جواب سؤال:(من هم الصِّدِّيقون؟ وما هي صفاتهم؟).
ثانيا:
منزلة الصديقية أعلى منزلة بعد النبوة
منزلة الصِّدِّيقيّة: هي أعلى منزلة بعد منزلة النبوة، وأصحابها هم: الصِّدِّيقُونَ.
قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا النساء/ 69.
قال الفخر الرازي، رحمه الله:
" ودل تفسير الصديق بما ذكرناه: على أنه لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم إلا هذا الوصف، وهو كون الإنسان صديقا. وكما دل الدليل عليه، فقد دل لفظ القرآن عليه؛ فإنه أينما ذكر الصديق والنبي لم يجعل بينهما واسطة "انتهى من "التفسير الكبير" (10/134).
وقال العلامة القاسمي، رحمه الله، في تلخيص كلام الرازي:
" دلت الآية على أنه لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم إلا هذا الوصف، وهو كون الإنسان صدّيقا. ولذا أينما ذكر في القرآن الصديق والنبيّ لم يجعل بينهما واسطة. كما قال تعالى في وصف إسماعيل: ( إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ ) [مريم: 54] ، وفي صفة إدريس: ( إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ) [مريم: 56] . وقال في هذه الآية: ( مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ ) ؛ يعني: أنك إن ترقيت من الصديقية وصلت إلى النبوة، وإن نزلت من النبوة وصلت إلى الصديقية. ولا متوسط بينهما. وقال في آية أخرى: ( وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ) [الزمر: 33] ؛ فلم يجعل بينهما واسطة.
وكما دلت هذه الدلائل على نفي الواسطة، فقد وفق الله هذه الأمة الموصوفة بأنها خير أمة، حتى جعلوا الإمام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر، على سبيل الإجماع. ولما توفي رضوان الله عليه دفنوه إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وما ذاك إلا أن الله تعالى رفع الواسطة بين النبيين والصديقين في هذه الآية؛ فلا جرم ارتفعت الواسطة بينهما في الوجوه التي عددناها " انتهى من "محاسن التأويل" (3/217).
وقال الشيخ ابن عثيمين، رحمه الله:
" مَراتِب البَشَر أَرْبَعة: النُّبوَّة المُتضَمِّنة للرِّسالة، والصِّدِّيقيَّة، والشُّهَداء، والصالحِين، قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69].
فأَعلى المَراتِب النُّبوَّة، ثُم الصِّدِّيقيَّة، ثُم الشَّهادة، ثُم الصَّلاح." انتهى من " تفسير سورة سبأ" (275).
ثالثا:
من هم المقربون؟
وأما المقربون ، الذين ذكرهم الله تعالى في سورة الواقعة في قوله : فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ الواقعة/88، 89.
فقد تعددت أقوال المفسرين في المقصود بهم :
فمن المفسرين من ذكر أنهم الذين قربهم الله من جواره في جنانه .
قال الطبري في "تفسيره" (23/ 159) : " فأما إن كان الميت من المقرّبين الذين قرّبهم الله من جواره في جنانه "انتهى.
ومن المفسرين من ذكر أنهم هم السابقون ، المذكورون في أول سورة الواقعة في قوله تعالى : ( والسابقون السابقون . أولئك المقربون ).
قال البغوي في "تفسيره" (5/ 22) : " ( فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) ، وَهُمُ السَّابِقُونَ " انتهى .
وقال العز بن عبد السلام في "تفسيره" (3/ 281) : " ( الْمُقَرَّبِينَ ) أهل الجنة ، أو السابقون " انتهى.
وقال القرطبي في "تفسيره" (17/ 232) : " ( فأما إن كان ) هذا المتوفى ( من المقربين ) وهم السابقون "انتهى.
وقال الطاهر ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (27/ 347) : " والمقربون هم السابقون الذين تقدم ذكرهم في قوله تعالى: ( والسابقون السابقون أولئك المقربون ) " انتهى.
ومن المفسرين من ذكر أنهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات زهدًا وتورعًا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، ففعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات، والمكروهات، فلما تقربوا إليه بجميع مايقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حبا تامًا ، كما قال تعالى : (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، يعني الحب المطلق كقوله تعالى : (اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) أي : أنعم عليهم الإنعام المطلق التام المذكور في قوله تعالى : (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) .
فهؤلاء المقربون صارت المباحات في حقهم طاعات يتقربون بها إلى الله عز وجل ، فكانت أعمالهم كلها عبادات لله ، فشربوا صرفا ، كما عملوا له صرفا " انتهى من "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" (ص: 34).
وقال ابن كثير في "تفسيره" (7/ 548) : " ( فأما إن كان ) أي : المحتضر، ( من المقربين ) ، وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات ، وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات " انتهى.
وقال السعدي في "تفسيره" (ص: 836) : " ( فَأَمَّا إِنْ كَانَ ) الميت ( مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) وهم الذين أدوا الواجبات والمستحبات ، وتركوا المحرمات والمكروهات ، وفضول المباحات " انتهى.
والحاصل:
أن مرتبة المقربين أوسع وأشمل من منزلة الصديقية ؛ فهي تجمع أكثر من منزلة وأكثر من طائفة ؛ فالمقربون فيهم الأنبياء ، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون والسابقون ، وغيرهم ممن فعلوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات زهدًا وتورعًا .
وأما مرتبة "الصديقية" : فهي أعلى مراتب الناس، بعد النبوة.
والله أعلم.
تعليق