الحمد لله.
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: "اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَ صَوْتَ عَائِشَةَ عَالِيًا، فَلَمَّا دَخَلَ تَنَاوَلَهَا لِيَلْطِمَهَا، وَقَالَ: أَلَا أَرَاكِ تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْجِزُهُ، وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُغْضَبًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي أَنْقَذْتُكِ مِنَ الرَّجُلِ؟
قَالَ: فَمَكَثَ أَبُو بَكْرٍ أَيَّامًا، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَهُمَا قَدِ اصْطَلَحَا، فَقَالَ لَهُمَا: أَدْخِلَانِي فِي سِلْمِكُمَا كَمَا أَدْخَلْتُمَانِي فِي حَرْبِكُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ فَعَلْنَا قَدْ فَعَلْنَا .
رواه أبو داود (4999)، والإمام أحمد في "المسند" (30 / 341)، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (7 / 27)، ومحققو المسند، والشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (6 / 944).
هذا الحديث فيه إنكار أبي بكر رضي الله عنه على ابنته عائشة رضي الله عنها في رفعها لصوتها على زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ غضبه بسبب شدة تعظيمه للنبي صلى الله عليه وسلم إلى أن همّ بضرب ابنته.
فقوله: ( تَنَاوَلَهَا )؛ أي: أخذها ( لِيَلْطِمَهَا )؛ أي: ليضربها.
( فجعلَ )؛ أي: فطفق ( يَحْجِزُه )؛ أي: يمنعه كي لا يضربها " انتهى من "المفاتيح في شرح المصابيح" (5 / 194).
وقول أبي بكر رضي الله عنه: " أَلَا أَرَاكِ تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
قال الطيبي رحمه الله تعالى:
" أي لا تتعرضي لما يؤدي إلى رفع صوتك... لا ينبغي لك أن أراك على هذه الحالة " انتهى من "شرح المشكاة" (10 / 3142).
وقال ابن ملك رحمه الله تعالى:
" وقال:( أَلَا أَرَاكِ )، همزة الاستفهام مقدَّرة على سبيل الإنكار...
( وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُغْضَبًا ) أغضبه رفع صوتها.
( فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي أَنْقَذْتُكِ مِنَ الرَّجُلِ؟ )؛ يعني: خلصتك من أبيك.
( قَالَ: فَمَكَثَ أَبُو بَكْرٍ أَيَّامًا، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَهُمَا قَدِ اصْطَلَحَا، فَقَالَ لَهُمَا: أَدْخِلَانِي فِي سِلْمِكُمَا )؛ أي: صُلْحكما.
( كَمَا أَدْخَلْتُمَانِي فِي حَرْبِكُمَا ) ، والمراد به رفع صوت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم.
( فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ فَعَلْنَا قَدْ فَعَلْنَا )؛ أي: أدخلناك في صلحنا " انتهى من "شرح مصابيح السنة" (5 / 264).
ورفع عائشة رضي الله عنها لصوتها على النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يعني أنها تجرأت على مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كانت محبة ومعظمة له؛ لكن رفع صوتها رضي الله عنها دافعه الغيرة التي فطرت عليها جميع النساء، مع ما تعلمه من محبة النبي صلى الله عليه وسلم لها.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال:
" ... وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ، فَصِحْتُ عَلَى امْرَأَتِي، فَرَاجَعَتْنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ، فَأَفْزَعَنِي، فَقُلْتُ: خَابَتْ مَنْ فَعَلَ مِنْهُنَّ بِعَظِيمٍ، ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: أَيْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: خَابَتْ وَخَسِرَتْ، أَفَتَأْمَنُ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَهْلِكِينَ؟ لاَ تَسْتَكْثِرِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ، وَلاَ تَهْجُرِيهِ، وَاسْأَلِينِي مَا بَدَا لَكِ، وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ عَائِشَةَ - ... " رواه البخاري (2468)، ومسلم (1479).
والدليل على أن رفع عائشة رضي الله عنها لصوتها في هذه الحادثة كان بدافع الغيرة، هو ما ورد في رواية أخرى لحديث النُّعْمَان بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: " اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعَ صَوْتَ عَائِشَةَ عَالِيًا، وَهِيَ تَقُولُ: وَاللهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ عَلِيًّا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَبِي، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ، فَدَخَلَ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا، فَقَالَ: يَا بِنْتَ فُلَانَةَ! أَلَا أَسْمَعُكِ تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رواه الإمام أحمد في "المسند" (30 / 372)، وحسّن إسناده محققو المسند.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم على درجة عظيمة من الخلق الكريم؛ فكان يقابل هذا الضعف الذي جبلت عليه المرأة من الغيرة بالتغافل والتجاوز عنه، ومصاحبة زوجته بأحسن خلق وأكرمه، امتثالا لقوله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ النساء/19.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ )، أي: طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم، وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ )، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي )، وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة؛ دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه " انتهى من "تفسير ابن كثير" (2 / 242).
كما كان صلى الله عليه وسلم لا يغضب غضب انتقام إلا لأجل الدين.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَأْثَمْ، فَإِذَا كَانَ الإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ، وَاللَّهِ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ، حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ" رواه البخاري (6786).
وليعلم العاقل المنصف : أن الله قد أمر نبيه أن يخير أزواجه ؛ فاخترنه – جميعا – رضوان الله عليهن، على الدنيا ، ومتاعها، وزينتها . قال الله تعالى:
يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا الأحزاب/28 – 29.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" هذا أمر من الله لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه، بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن، فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند الله في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن - رضي الله عنهن وأرضاهن - الله ورسوله والدار الآخرة، فجمع الله لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة.
روى البخاري؛ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أنّ عائشة، رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه، فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك، وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه. قالت: ثم قال: وإن الله قال: ( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ ) إلى تمام الآيتين، فقلت له: ففي أيّ هذا أستأمر أبويّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ).
وكذا رواه معلقا عن الليث: حدثني يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة، فذكره وزاد: قالت: ( ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت ). " انتهى من "تفسير ابن كثير" (6 / 401).
والله أعلم.
تعليق