الحمد لله.
لم نقف على هذه الجملة ، بنفس اللفظ المذكور.
وإنما وقفنا على معناها، فيما رواه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 55) عن عمر رضي الله عنه قال: "إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يُمِيتُونَ الْبَاطِلَ بِهَجْرِهِ، وَيُحْيُونَ الْحَقَّ بِذِكْرِهِ".
ومعناه : التحذير من نقل الباطل ، وتداول مقالاته، ولو كان هذا النقل في صورة التحذير منه ؛ فإن في نفس التحذير منه إشاعة له، كما لو قال إنسان مغمور كلاما، فلو تُرك، مات قوله، ولم يلتفت إليه أحد، ولو حُذر منه لذاع وانتشر، وحصل مقصود صاحبه من نشره وإشاعته.
وكما لو كانت حفلة ماجنة ستقام، ولم يشتهر أمرها، فلو حذر منها خطيب الجمعة، لانتشر أمرها وعلم به من كان جاهلا.
وهذا كله كما لا يخفى ، إنما هو في باطل خفي، لم يشتهر أمره، فينشغل الناقل بالتحذير منه، فليتفت الناس إليه، ويبحثون عنه؛ فيكون في ذلك من إذاعته ، وتعريف الناس به ، ما لا يخفى على عاقل.
وقد حكى الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله موقفا حصل له يتعلق بهذه القضية فقال:
" حين كنت إماما في جامع كبير بدمشق، وكنت شابا لا أدرك أبعاد الأمور، وكان قد أعلن أن فلانة.. المطربة سوف تزور الشام وتحيي حفلة غنائية، وكانت تلك المطربة سيدة الغناء في ذلك الوقت، قبل أن تشتهر أم كلثوم، وكانت كلمات أغانيها فيها خلاعة وحركاتها، وهي تغني، كلها دلع ومياعة، فاعتليت المنبر في خطبة الجمعة وصحت بالناس محذرا: انتبهوا.. اسمعوا.. وعوا.. غدا أو بعد غد ستأتي المطربة الخالعة المائعة المسماة ....، وتملأ فضاء الشام بكلمات أغانيها التي تخدش الحياء، وسوف تتمايل بقدها الممشوق وتهز جسمها وتبرز مفاتنها، فالحذر الحذر من حضور حفلتها أو السماح لشبابنا بشراء تذاكرها.. فإنها مفسدة للدين والأخلاق ..
وواصلت الهجوم عليها ، والمطالبة بمنعها !!
وليتني لم أفعل! إذ لم يكد الشباب يخرجون من الجامع ، حتى تسابقوا لشراء تذاكر حفلتها حتى نفدت التذاكر في يوم، وبيعت في السوق السوداء بعشرة أضعاف ثمنها ..
كنت أعمل، دعاية هائلة مجانية، من دون أن أدري، كنت أظن أنني أصرف الناس عنها فصرفتهم إليها.. فكل ممنوع متبوع وكل من تتم مهاجمته تتضاعف شهرته" انتهى بتصرف يسير
وما روي عن عمر رضي الله، كان هديا للسلف في التعامل مع المقالات وأصحابها، ولهذا قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 28):
"وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ مُنْتَحِلِي الْحَدِيثِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا فِي تَصْحِيحِ الْأَسَانِيدِ وَتَسْقِيمِهَا ، بِقَوْلٍ لَوْ ضَرَبْنَا عَنْ حِكَايَتِهِ، وَذِكْرِ فَسَادِهِ صَفْحًا ؛ لَكَانَ رَأْيًا مَتِينًا، وَمَذْهَبًا صَحِيحًا، إِذِ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْقَوْلِ الْمُطَّرَحِ أَحْرَى لِإِمَاتَتِهِ، وَإِخْمَالِ ذِكْرِ قَائِلِهِ، وَأَجْدَرُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا لِلْجُهَّالِ عَلَيْهِ" انتهى.
وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه "هجر المبتدع" ص50:
"المبحث العاشر: إشاعة البدعة: نصيحتي لكل مسلم سلم من فتنة الشبهات في الاعتقاد: أن البدعة إذا كانت مقموعة خافتة، والمبتدع إذا كان منقمعا مكسور النفس بكبتِ بدعته، فلا يحرك النفوس بتحريك المبتدع وبدعته؛ فإنها إذا حُرِّكت نمت وظهرت...
وهذا الكتمان والإعراض من باب المجاهدة والجهاد، فكما يكون الحق في الكلام، فإنه يكون في السكوت والإعراض، فتنزل كل حالة منزلتها" انتهى.
وهذا لا يعني عدم الإنكار على صاحب الباطل المخفي، أو النصح له، لكن يكون ذلك دون إعلان، كأن يراسل ويناصح، ولا يحذر منه على الملأ.
وقد تُنكر المقولة على الملأ لكن لا يذكر صاحبها منعا لإشهاره والدلالة عليه.
وبالجملة :
فهذا باب من الفقه تراعى فيه المصالح والمفاسد والمآلات.
والله أعلم.
تعليق