السبت 22 جمادى الأولى 1446 - 23 نوفمبر 2024
العربية

شرح دعاء حديث اختصام الملأ الأعلى

343809

تاريخ النشر : 28-01-2021

المشاهدات : 45530

السؤال

ماهو معنى وشرح دعاء : (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي، وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ)؟ وهل هذا الحديث يقصد به الدعاء السابق أو الحديث السابق؟ أم شامل لكل الأدعية " وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إنها حق ، فادرسوها ثم تعلموها) .

الحمد لله.

أولا: التعليق على صحة الحديث 

عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: " احْتُبِسَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ عنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى عَيْنَ الشَّمْسِ، فَخَرَجَ سَرِيعًا فَثَوَّبَ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ دَعَا بِصَوْتِهِ فَقَالَ لَنَا: عَلَى مَصَافِّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ، ثُمَّ انْفَتَلَ إِلَيْنَا فَقَالَ:

أَمَا إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمُ الغَدَاةَ: أَنِّي قُمْتُ مِنَ اللَّيْلِ فَتَوَضَّأْتُ فَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِي فَنَعَسْتُ فِي صَلَاتِي فَاسْتَثْقَلْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ...

قَالَ: سَلْ. قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ المَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ 

.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا  .

رواه الترمذي (3235)، وقال: " هذا حديث حسن صحيح. سألت محمد بن إسماعيل، عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن صحيح " انتهى.

وهذا الحديث اختلف أهل العلم فيه كثيرا فمنهم من صححه ومنهم من ضعفه، كما سبق الإشارة إلى هذا في جواب السؤال رقم : (273377).

ثانيا: شرح الدعاء الوارد في الحديث 

على القول بصحة الحديث؛ فقوله صلى الله عليه وسلم:  اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ  .

فهو دعاء الله تعالى بالتوفيق والتسديد والإعانة على فعل الخير واجتناب المنكر.

قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:

" فليس في فعل الخيرات ما يحتاج إلى تفسير، أكثر من أنها الأعمال التي يرضاها الله، ويحمد فاعلها عليها، ويعظم أجره، وكذلك المجازاة أيضا على ترك المنكرات، إذا قصد بتركها رضا الله عنه " انتهى من "الاستذكار" (8 / 171).

وقال أبو الوليد الباجي رحمه الله تعالى:

" قوله صلى الله عليه وسلم : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ ) : يقتضي أن فعل الخيرات وترك المنكرات : إنما هو بفضل الله وتوفيقه وعصمته " انتهى من "المنتقى" (1 / 361).

وهذا شبيه بما يدعو به المسلم في كل صلاة أثناء قراءته لسورة الفاتحة، لقوله تعالى:

 اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ   الفاتحة/6 – 7.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( وَحُبَّ المَسَاكِينِ ) وهو الدعاء بأن يوفقه ، وييسر له حبّ المساكين.

قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:

" والمسكين ها هنا المتواضع كله، الذي لا جبروت فيه ولا كبر، الهين اللين السهل القريب، وليس بالسائل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد كره السؤال ونهى عنه وحرمه على من يجد ما يغديه ويعشيه.

وقد أوضحنا ذلك في التمهيد وإنما المعنى في المسكين ها هنا المتواضع الذي لا جبروت فيه ولا نحوه، ولا كبر ولا بطر ولا تجبر ولا أشر " انتهى من "الاستذكار" (8 / 171).

والمعنى في ذلك: أن حبّ هؤلاء المساكين، يدل على أن حب المسلم للمسلمين، هو حب خالص لوجه الله تعالى، وليس لغرض دنيوي.

كما أن حب هؤلاء المساكين والعطف والرحمة بهم: كل هذا يستجلب رحمة الله تعالى لهذا المسلم، المحب لإخوانه المساكين؛ لأن الجزاء من جنس العمل.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ   رواه الترمذي (1924) وغيره، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ".

كما أن محبة هؤلاء المساكين ومجالستهم تزهّد المسلم في الدنيا.

قال ابن رجب رحمه الله تعالى:

" والمقصود أن حب المساكين أصل الحب في الله تعالى؛ لأن المساكين ليس عندهم من الدنيا ما يوجب محبتهم لأجله، فلا يحبون إلا لله عز وجل و ( الحب في الله من أوثق عرى الإيمان )، و ( من علامات ذوي حلاوة الإيمان )، وهو ( صريح الإيمان )، وهو ( أفضل الإيمان )، وهذا كله مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصف به الحب في الله تعالى " انتهى من "اختيار الأولى" (ص 94).

وقال رحمه الله تعالى:

" واعلم أن محبة المساكين لها فوائد كثيرة، منها: أنها توجب إخلاص العمل لله عز وجل، لأن الإحسان إليهم لمحبتهم لا يكون إلا لله عز وجل، لأن نفعهم لا يرجى غالبا...

ومنها: أنها تزيل الكبر، فإن المستكبر لا يرضى مجالسة المساكين، كما سبق عن رؤساء قريش والأعراب ومن حذا حذوهم من هذه الأمة ممن تشبه بهم...

ويمتنع بسبب هذا الكبر خير كثير جدا...

ومنها: أنه يوجب صلاح القلب وخشوعه...

ومنها: أن مجالسة المساكين توجب رضى من يجالسهم برزق الله عز وجل، وتعظم عنده نعمة الله عز وجل عليه بنظره في الدنيا إلى من دونه، ومجالسة الأغنياء توجب التسخط بالرزق، ومد العين إلى زينتهم وما هم فيه، وقد نهى الله عز وجل نبيه عن ذلك فقال تعالى: (ولا تَمُدَّنَّ عينيك إلى ما متَّعنا به أزواجاً منهم زَهْرَةَ الحياةِ الدنيا لنفتِنَهم فيه ورزقُ ربِّك خيرٌ وأبقى)... " انتهى من "اختيار الأولى" (ص 102 - 105).

وقوله صلى الله عليه وسلم:  وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ .

قال عبد الحق الدهلوي رحمه الله تعالى:

" قوله: (فتنة) أي: دينية مضلة.

وقوله: (فاقبضني) فيه أنه لا يكره طلب الموت لخوف فتنة دينية، وفي الحقيقة هذا تعليم للأمة، وكذلك أكثر دعواته صلى اللَّه عليه وسلم " انتهى من "لمعات التنقيح" (2 / 480).

وقال ابن رجب رحمه الله تعالى:

" قوله : ( وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ )، المقصود من هذا الدعاء سلامة العبد من فتن الدنيا مدة حياته، فإن قدر الله عز وجل على عباده فتنة قبض عبده إليه قبل وقوعها، وهذا من أهم الأدعية، فإن المؤمن إذا عاش سليماً من الفتن، ثم قبضه الله تعالى إليه قبل وقوعها، وحصول الناس فيها: كان في ذلك نجاة له من الشر كله، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: ( أن يتعوذوا بالله من الفتن ما ظهر وما بطن ). وفي حديث آخر: ( وجنبنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن )...

والدعاء بالموت خشية الفتنة في الدين جائز، وقد دعا به الصحابة والصالحون بعدهم " انتهى من "اختيار الأولى" (ص 118 - 120).

وقال النووي رحمه الله تعالى:

" قوله صلى الله عليه وسلم: ( لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي ).

فيه التصريح بكراهة تمني الموت لضر نزل به، من مرض أو فاقة أو محنة، من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا، فأما إذا خاف ضررا في دينه أو فتنة فيه؛ فلا كراهة فيه، لمفهوم هذا الحديث، وغيره. وقد فعل هذا الثاني خلائق من السلف عند خوف الفتنة في أديانهم " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (17 / 7 - 8).

وقوله صلى الله عليه وسلم:   وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ  .

في هذا الدعاء سؤال لله تعالى بأن يوفقه إلى حبه وحب أهل الإيمان وأعمال الإيمان؛ لأن الحب هو أصل للعمل ودافع إليه؛ فهذا الحب هو أصل الدين.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

" وهي – المحبة - روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه..." انتهى من "مدارج السالكين" (4 / 2775).

وقال رحمه الله تعالى:

" فإنها روح كل مقام ومنزلة وعمل، فإذا خلا منها فهو ميت لا روح فيه، ونسبتها إلى الأعمال كنسبة الإخلاص إليها، بل هي حقيقة الإخلاص، بل هي نفس الإسلام، فإنه الاستسلام بالذل والحب والطاعة لله. فمن لا محبة له؛ لا إسلام له ألبتة. بل هي حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله. فإن الإله ... هو الذي تألهه القلوب. أي تحبه وتذل له.

وأصل التأله التعبد. والتعبد آخر مراتب الحب. يقال: عبده الحب وتيمه: إذا ملكه وذلـله لمحبوبه.

فـ " المحبة " حقيقة العبودية. وهل تُمْكِن الإنابة بدون المحبة والرضا... " انتهى من "مدارج السالكين" (4 / 2815 – 2816).

وقال ابن رجب رحمه الله تعالى:

" هذا الدعاء يجمع كل خير، فإن الأفعال الاختيارية من العباد، إنما تنشأ عن محبة وإرادة، فإن كانت محبة الله ثابتة في قلب العبد، نشأت عنها حركات الجوارح، فكانت بحسب ما يحبه الله ويرتضيه، فأحب ما يحبه الله عز وجل من الأعمال والأقوال كلها، ففعل حينئذ الخيرات كلها وترك المنكرات كلها، وأحب من يحبه الله من خلقه.

وهذا الدعاء كانت الأنبياء عليهم السلام يدعون به، كما في الترمذي عن النبي (أن داود عليه السلام كان يقول: " اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يبلغني إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد ". وفيه أيضاً أن النبي (كان يدعو: " اللهم ارزقني حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يبلغني إلى حبك... ). " انتهى من "اختيار الأولى" (ص 125).

وقوله صلى الله عليه وسلم:  إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا .

الضمير راجع إلى ما في هذا الحديث من الدعاء، وليس إلى الأدعية التي في غير هذا الحديث - وإن كان كلها فيها الخير وينبغي الاعتناء بها -؛ لأن الأصل في الضمير أن يعود على أقرب مذكور.

ويحسن مطالعة كتاب "اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى" لابن رجب رحمه الله تعالى، فقد توسع في شرح هذا الحديث وبيانه.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب