الحمد لله.
روى البخاري (5825) عَنْ عِكْرِمَةَ: "أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ القُرَظِيُّ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَعَلَيْهَا خِمَارٌ أَخْضَرُ، فَشَكَتْ إِلَيْهَا وَأَرَتْهَا خُضْرَةً بِجِلْدِهَا، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنِّسَاءُ يَنْصُرُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا - قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَا يَلْقَى المُؤْمِنَاتُ؟ لَجِلْدُهَا أَشَدُّ خُضْرَةً مِنْ ثَوْبِهَا. قَالَ: وَسَمِعَ أَنَّهَا قَدْ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ، إِلَّا أَنَّ مَا مَعَهُ لَيْسَ بِأَغْنَى عَنِّي مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ ثَوْبِهَا، فَقَالَ: كَذَبَتْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأَنْفُضُهَا نَفْضَ الأَدِيمِ، وَلَكِنَّهَا نَاشِزٌ، تُرِيدُ رِفَاعَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنْ كَانَ ذَلِكِ لَمْ تَحِلِّي لَهُ، أَوْ: لَمْ تَصْلُحِي لَهُ حَتَّى يَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِكِ ... .
ورواه البخاري (5260)، ومسلم (1433) من حديث عُرْوَة بْنِ الزُّبَيْرِ، عن عَائِشَةَ رضي الله عنها.
وهذا الحديث يتناقله أهل العلم لبيان أن المطلقة ثلاثا لا يحل أن ترجع إلى زوجها الأول، إلا إذا تزوجت رجلا غيره وجامعها قبل أن يطلقها.
وعائشة رضي الله عنها ما حدثت بمثل هذا الخبر إلا لبيان حكم شرعي، فهي لم تكن تعقد مجالس لمجرد التحديث، إلا لحاجة أو مسألة، فضلا عن أن يكون أي حديث من أحاديث الناس؛ بل كانت تنكر على من يكثر الأحاديث.
عَنْ عُرْوَة بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " أَلاَ يُعْجِبُكَ أَبُو فُلاَنٍ، جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِ حُجْرَتِي، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُسْمِعُنِي ذَلِكَ وَكُنْتُ أُسَبِّحُ، فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ سُبْحَتِي، وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ" رواه البخاري (3568)، ومسلم (2493) وفي روايته: "أَلَا يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ ...".
وإنما كان شأنها أنها تحدث إذا سُئلت، فقد كان يأتيها الصحابة والتابعون يستفسرونها عن أمور من هدي النبي صلى الله عليه وسلم لكونها زوجته ومن أعلم الناس بسنته، فتضطر للإجابة نشرا للعلم.
كما يشير حديث أَبِي مُوسَى، قَالَ: "اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ رَهْطٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّونَ: لَا يَجِبُ الْغُسْلُ إِلَّا مِنَ الدَّفْقِ أَوْ مِنَ الْمَاءِ. وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: بَلْ إِذَا خَالَطَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ، قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى: فَأَنَا أَشْفِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ فَقُمْتُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَأُذِنَ لِي، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّاهْ - أَوْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ - إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ شَيْءٍ وَإِنِّي أَسْتَحْيِيكِ، فَقَالَتْ: لَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَسْأَلَنِي عَمَّا كُنْتَ سَائِلًا عَنْهُ أُمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ، فَإِنَّمَا أَنَا أُمُّكَ، قُلْتُ: فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ قَالَتْ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ..." رواه الإمام مسلم (349).
وسياقات هذا الحديث القرائن تشير إلى أنها حدّثت به بسبب واقعة حصلت، فقد كان يستفسر أمامها بمثل هذه المسائل، كمثل ما رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2 / 571): عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ الْأَنْصَارِيِّ: "أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَاصِمِ ابْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: فَجَاءَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ إِيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَمَاذَا تَرَيَانِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَا لَنَا فِيهِ قَوْلٌ، فَاذْهَبْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنِّي تَرَكْتُهُمَا عِنْدَ عَائِشَةَ، فَسَلْهُمَا ثُمَّ ائْتِنَا فَأَخْبِرْنَا، فَذَهَبَ فَسَأَلَهُمَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: أَفْتِهِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَدْ جَاءَتْكَ مُعْضِلَةٌ...".
فالقول بأنها ساقت هذا الخبر بيانا لحكم يُحتاج إليه: هو الموافق لواقع الحال ولسيرتها رضي الله عنها؛ فمن المتعارف عليه عند العقلاء أن اللفظة الواحدة يتكلم بها جمع من الناس، لكنها تفهم من كل أحد على حسب سيرته وعادته في الكلام.
ثم هب أنها حدثت بهذا الحديث ابتداء، فما ذنبها إذا حدثت بحادثة حصلت أمام النبي صلى الله عليه وسلم وخيار الصحابة رضوان الله عليهم؟!
أليس في هذا الحديث بيان لحكم شرعي، التبس أمره على بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فضلا عمن بعدهم ، ولو لم تذكر القصة بتمامها، لما تبين الحكم فيه حق البيان؟!
وأي شيء في هذا الحديث مما يغري طالب الغرائب، وهذه الأبواب التي يذكرها الرافضي بذكره؟!
إنما هي إشارة مجملة، وكناية عن تحقيق أمر يحتاج إليه في بيان أطراف المسألة، ومن أراد الأحاديث الأخر، فعنده متسع من أخبار الجاهلية وأحوالها، يطلبها هؤلاء الكذابون وأمثالهم!!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" والرافضة قوم بهت، فلو طلب من هذا المفتري دليل على ذلك، لم يكن له على ذلك دليل.
والله تعالى قد حرم القول بغير علم، فكيف إذا كان المعروف ضد ما قاله؟ فلو لم نكن نحن عالمين بأحوال الصحابة، لم يجز أن نشهد عليهم بما لا نعلم من فساد القصد والجهل بالمستحق.
قال تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا )، وقال تعالى: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ).
فكيف إذا كنا نعلم أنهم كانوا أكمل هذه الأمة عقلا وعلما ودينا؟ " انتهى من "منهاج السنة"(2/ 76).
والله أعلم.
تعليق